لروح المرحوم الشاعر الصديق محمد نجم الدين الناشف في يوم تكريمه، بقلم: د. سامي إدريس

مرّرتُ أثناء تجوالي في الطَّبيعة بتوتةٍ فارسيةٍ قد نَضِجت ثمارُها الخمريّة الحمراءُ فأنختُ تحتها وأكلتُ من حبّها حتى ارتويت، فأثارت فيَّ ذكرى توتةٍ فارعةٍ كانت تجثمُ في دار جدّي، فأنشدتُ لها هذه القصيدة.. وأقدّمها لروح المرحوم الشاعر الصديق محمد نجم الدين الناشف في يوم تكريمه.

سَكرتُ من توتَةٍ حمراءَ باذِخةٍ
قالتْ لعُصفورِها والشَّمسُ تَشْتَعِلُ
قد ناخَ في الظِّلِّ مرتاحاً يسامِرُها
كعاشقٍ أسْكَرَتْه الأعينُ النُّجُلُ
يا توتةَ الدارِ بعْضُ الناسِ مُحْتَملٌ
وبعضُهُم لستُ أدري كيفَ أحتَمِلُ!
يا توتةَ الدارِ شابَ الليلُ فاتئدي
فاليومَ لمْ يبقَ لا شعرٌ ولا غَزَلُ
تسعونَ عاماً وجدّي عنكِ مُنذَهِلٌ
في عِشْقِهِ يَحرُثُ الجبلَ الذي جَبَلوا
يُعلّمُ الأرضَ أنْ ترعى بيادِرَها
وعلّمَ الصَّخرَ كيفَ الصَّخرُ يعتَدِلُ
***
نَمْ يا صديقِيَ في ظِلّي تسامِرُني
أحنو عليكَ وتحنو وُرْقِيَ الخُضُلُ
أروي لكَ اليومَ عن ماضٍ رَفُلتُ بهِ
وعن جُدودٍ وأمجادٍ وما فعلوا
بالأرضِ صَلّوا وصاموا وَصْلُهمْ أُمَلٌ
وبالتُّرابِ ثرى الزيتونَةِ اغتَسَلوا
ثرى فلسطينَ والأرضِينَ قاطبةً
مَدّوا اليدينِ إليها في المدى اكتَحلوا
وعن سجينٍ قضى ما زلتُ أذكرهُ
بالماءِ والملحِ سَجَّلَ أَنَّهُ البَطَلُ
***
خذْ للوليفةِ حبّاتٍ مُعتَّقَةً
واعصرْ بثغرٍ فكم تحلو بها القُبَلُ
آمنتُ بالشعرِ لكنْ لم أعُدْ كَلِفاً
أن تسمعونِيَ ما شأني بما نَقَلوا
***
يا توتةَ الدارِ بعضُ الصَّدِّ مُحْتَملٌ
وبعضُهُ لستُ أدري كيفَ أحتَمِلُ!
فحينَ تضحكُ لي أبني قصورَ هوىً
فيها شقاءٌ ويأسٌ مثلما الأَمَلُ
تَصارَعتْ كلُّها جوفي مُردِّدَةً
يا أيّها الجُرحُ مالي في الهَوى قِبَلُ
تعبْتُ حتى صميمُ القلبِ ملتفِتٌ
الى الطَّبيعةِ يدعوها وينسَدِلُ
ما زلتُ أنحتُ فيها وَهْيَ تَنْحَتُني
حتى بدوتُ كمزمارٍ بهِ عُقَلُ
***
ومَسجدٍ ناحَ ليلَ القدرِ آذِنُهُ
تبكي حجارَتُهُ والدَّمعُ يَنْهملُ
أيّامُ عزٍّ وسَعْدٍ آهِ قد رَحَلتْ
للهِ أبكي لماضيكِ الذي جَهِلوا
هذي هيَ الدارُ هذي الأمُّ موحِشَةٌ
ما أوحشَ الدارَ إنْ ضاقتْ بها السُّبُلُ
***
وشاعرٍ قامَ يروي لي بطولَتَهُ
وكيف من عسلي يُروى ويثتَمِلُ
وكيفَ سطّرَ في ظلّي قصائِدَهُ
شهداً شهيّاً مُصَفّىً كلُّهُ عَسَلُ
وكيفَ قبّلَها ثَمِلاً ولاعبَها
والنارُ من شوقِها نارٌ بها ثَمَلُ
وراحَ يقطفُ حبّاتي ويسألني
من علّمَ التُّوتَ لا يبكي ويَبتهلُ
ومَنْ إذا ناحَ عند الظهرِ بُلبُلُهُ
تردّدَ الوطنُ المكلومُ والجبَلُ
***
يا (توتةَ الدّارِ) صَبْراً عائِدونَ لها
مهما يجورُ علينا زاعِمٌ دَخِلُ
خيرُ الشُّعوبِ الفِلسطّيونَ يا وطناً
من عهدِ كنعانَ جاءوهُ .. بهِ نزلوا
تسعونَ عاماً وجدّي عنكِ مُنذَهِلٍ
في عِشْقِهِ يحرثُ الجبلَ الذي جَبَلوا
يُعلّمُ الأرضَ أنْ ترعى بيادِرَها
وعلّمَ الصَّخرَ كيفَ الصَّخرُ يعتَدِلُ
وعلّمَ الناسَ أنَّ الصَّبرَ يوصِلُهمْ
وأنّهُ صابِرٌ في صَبْرهِ جَمَلُ
من حكمةٍ ورؤىً صاغَ الطريقَ لها
أضحى الأريبُ بها يأتمُّ يكتَحِلُ
***
إلامَ هذا الخصامُ المرُّ يا وطني
وأنتمُ الأرضُ والثوارُ والأهَلُ
والقدسُ حاضرةُ الزمانِ تُرى
بها عيونُ الورى والجنِّ تكتحِلُ
***
باقٍ من العُمْرِ بعضٌ من تَعَشُّقِهِ
أحلى ندى العمرِ أو أيّامُهُ الأوَّلُ
قولي لحُبِّيَ أنْ يعودَ قلْبَ فَتى
بالنظرةِ البِكرِ قد يهوى وينفعلُ

بقلم: د. سامي ادريس