علوم وتكنولوجيا

عندما قادني التوحّد إلى الحقيقة

المختلفون ليسوا دون أي إنسان آخر، هم الأصل في تكاملنا نحن. هم الأساس في تعلّمنا الصبر وحب الحياة، وهم روّاد الحب الحقيقي، فلنتقبّل الآخر المختلف، فلنساعد على دمجه في المجتمع بطريقةٍ صحيحةٍ.

عندما قادني التوحّد إلى حقيقة
لقد بدا لي مختلفاً، كنت أراقبه من بعيد، كان هادئاً، حَسَن الوجه يضحك لوحده، وقد تدلَّت خصلة من شعره الذهبي على وجهه فأخذ ينفخ عليها مراراً حتى وصل ذلك إلى أكثر من خمسين مرة ولم يملّ. عيناه جعلتاني أنجذب إليهما ولو من بعيد. كانتا شديدتي الروعة. هذا الطفل الذي لم يتجاوز السادسة من العُمر كان يضع يده بيد رجل أربعيني يمكث بجانبه بانتظار الممرضة، أراد النزول من غرفة المستشفى لتخليص بعض المعاملات.

اندفاعي جعلني أعرض على ذاك الرجل أن أجلس بجانب الطفل ريثما يعود هو، وكانت هيأة الطفل قد شدّتني للاقتراب أكثر، ووافق الرجل الذي أعلمني أنه والد “جايسون” وقال لي إنه لن يتأخّر، عندها شدّ الأب على يد الطفل وابتسم وأخبره أنه مضطر أن يغادره بعضاً من الوقت لكي يوقِّع ويتسلَّم بعض الأوراق من المستشفى، لكن جايسون ما زال ينفخ على خصلة شعره، لم يحزن، وأيضاً لم يفرح، وعندما أصرّ الأب على تقديم تبرير لولده باضطراره إلى الذهاب، لفظ جايسون كلمتين بصعوبة “بابا.. روحي” (أي إذهب).

ما زلت أراه جميلاً ومختلفاً، ولكني لم أعرف ما خطبه، جلست بجانبه واقتربت منه علَّني أعرف وقلت له “شو رأيك أحكيلك قصة ليلى والذئب”، لكنه لم يهتمّ لما أقوله ولم يبتسم أبداً، وكأنه لا يريد ذلك. عندها أتيت بلعبة أخي الذي كان يمكث في الغرفة ذاتها مع جايسون، اقترحت عليه أن نلعب سوية فيها ولكن لم يعد ينظر إلى نفس الجهة التي أمسك فيها اللعبة. زادت شكوكي وشعرت بالوقت ذاته أني مُملّة، أخيراً قرَّرت أن أمدّ له يدي وأن ألتزم الصمت، وكانت المُفاجأة أن تحسَّس جايسون يدي برويّة، وهذا ما لم أكن أتوقّعه، لقد حسبت أنه لم يحبّني البتّة! حتى اللحظة التي جاء صوت الممرضة الذي سبقها بالقول “جايسون مريض توحّد”.

ADVERTISING

هي قصة واقعية، أردت أن أقول لكم من خلالها الكثير، لأن جايسون ما زال مُتأثّراً. أعرف من قرارة نفسي حتى لو لم يتمكَّن من أن يقول لي ذلك، لأنه ليس مريضاً، فالتوحّد ليس مرضاً.

يُعرِّف لنا الدكتور سركيس أبي طنوس الأخصّائيّ في التأهيل الفكري والنفسي والعلاج الانشغالي، التوحّد بأنه اضطراب في التطوّر النفسي والعصبي عند الطفل، تظهر معالمه عادة خلال السنوات الثلاث الأولى من عُمر الطفل، ويمكن الاستدلال عليه من خلال عدّة مظاهر لها علاقة بالتفاعُل والتواصُل الإجتماعي للطفل مع محيطه الذي يبدو وكأن مشكلة ما تشوب هذا التواصُل، بالإضافة إلى ظهور سلوك نَمَطي مُتكرِّر ويمتدّ ذلك لنلحظ أن اهتمامات طفل التوحّد تكاد تكون محدودة جداً.

ويشرح أبي طنوس، أن أعراض التوحّد تختلف من طفل إلى آخر وهي مُتفاوتة لذلك نتحدَّث عن طَيْفِ التوحّد، لأن الأعراض لا تجتمع كلها في شخصٍ واحدٍ وهي مُتفاوتة في حدَّتها وتتراوح من شخصٍ وآخر بين خفيفة وشديدة؛ ويمكن تقسيمها كالتالي:

التفاعُل الاجتماعي: نلحظ خَلَلاً في التفاعُل الاجتماعي لدى الطفل يُسبِّب له صعوبات في حياته اليومية فنجده غير مُهتمٍّ بالأشخاص المُحيطين به، ولا يتمكَّن من فَهْمِ مشاعر الآخرين أو التفاعُل معهم بصورةٍ صحيحة، إضافة إلى أنه قد لا يمتلك مهارات التقليد، ولا يأبه بالموضوع، طبعاً بِنِسَبٍ مختلفة بين كل طفل وآخر.

التواصُل: يمكن القول إن طفل التوحّد لديه ضعف في المهارات اللفظية، فقد نجده يتأخَّر حتى يتكلَّم، ويمكن أن يُكرِّر بعض الكلمات ولا يقول غيرها كـ” بابا، ماما” عند بلوغه 16 شهراً من عُمره، قد نجده يستعمل الضمائر في غير محلها. أما على صعيد التواصُل بالنظر فطفل التوحّد قد لا ينظر إلى الشخص الذي يتكلَّم معه، قد لا يلتفت مثلاً إلى والدته إنْ نادته بإسمه وهنا تجدر الإشارة إلى أنه قد لا يعاني من مشكلة في السمع، ولكنه فعلاً لا يريد أن يردّ، وقد لا يستخدم الإشارة بإصبعه لكي يدلّ على الشيء، هنا يقول لنا أبي طنوس إن طفل التوحّد قد يستعمل يد الأشخاص للحصول على غرضٍ مُعيَّن.

السلوك: يمكن رَصْد سلوك طفل التوحّد على أنه سلوك نَمَطي مُتكرِّر، وهنا يُخبرنا إبي طنوس أن طفل التوحّد قد يعجبه على سبيل المثال جزءاً من لعبته وليس كلها كدولاب السيارة، ويعمد إلى اللعب بالدولاب طوال الوقت من دون أن يملّ في تكرار لنفس الفعل من دون أن تلفت انتباهه لعبة أخرى.

إنه طفل إحساسه مُرْهَف جداً، وما علينا معرفته أنه يجد صعوبة بتغيير عاداته اليومية فإذا فرضنا أن أمَّ طفل مصاب بالتوحّد أرادت أن تغيّر له المدرسة التي هو فيها. قد يعيش هذا الطفل فترة وهو يعاني من غياب الاستقرار النفسي داخله، أو حتى إذا تمّ تغيير عاملة المنزل التي تساهم بالاهتمام به سيُعاني من نفس الصعوبات فهو ليس إنساناً يستطيع تغيير عاداته بهذه السهولة.

ويسرد لنا إبي طنوس عن تفاعُل بعض أطفال التوحّد مع المُثيرات الحسيّة، إذ أن ردود فعلهم تتَّسم بالغرابة، ومنها انزعاج طفل مُصاب بالتوحّد على سبيل المثال من ملمس التراب، وقد يشعر أنه شيء مُخيف، الأضواء أيضاً يراها طفل التوحّد غير ما نراها نحن، فقد تكون شديدة القوَّة ويلحظها بطريقةٍ أدقّ من أي شخص آخر، وقد يتجنَّب طفل التوحّد الاحتكاك الجسدي مع الآخرين ويُفضِّل البقاء أو اللعب لوحده مثلاً وليس مع أقرانه من الأطفال.

وقد يُقْدِم على إيذاء نفسه خلال اللعب من دون أن يدرك خطورة ما يقوم به، وقد يواجه اضطرابات بالأكل قد لا يتقبَّل بعض الأطعمة. كما أنه قد لا يتقبَّل التنوُّع بالطعام ويعتاد على نوع من دون آخر، إضافة إلى أنه قد يعاني من اضطرابات بالنوم فيكون نومه مٌتقطّعاً.

وفق أبي طنوس، لا نعرف أبداً ما هو السبب الحاسِم والأساسي لاضطراب التوحّد، ولكن الأكيد إننا نعرف أن العوامل البيولوجية والعوامل الجينية الوراثية تلعب دوراً أساسياً في هذا المجال، مضيفا أنه مقابل كل 4 ذكور مصابين بالتوحّد هناك فتاة واحدة، أي أن التوحّد يُصيب الذكور 4 أضعاف من الأناث.

وبالحديث عن طُرُق العلاج فإن هذه حقاً بمثابة رحلة أساسها الأهل في الدرجة الأولى والمعالجون في الدرجة الثانية إذ أن الأهل أو بالأخصّ الأب والأمّ هما اللذان يلحظان عادات وسلوكيات الطفل وهما أيضاً اللذان يساعدان طفلهما على التقدّم خطوات إلى الأمام، وذلك لا يمكن أن يحدث إلا إذا تقبّل هؤلاء طفلهما، فإن عامل التقبّل يشكّل الحافز الرئيس والأول في رحلة علاج طفل التوحّد.

كيف يمكن تشخيص حال الطفل إن كان مصاباً باضطراب التوحّد أم لا؟
إن التشخيص كما يقول د. أبي طنوس، يكون دقيقاً ولا يمكن أن يتّم في غضون أيام معدودات أو حتى خلال شهر، لذلك يتمّ التقييم من قِبَل فريق مُتعدِّد الاختصاصات، لافتاً إلى أن التشخيص يضعه الطبيب النفسي، وذلك من بعد أن تتمّ مراقبة الطفل على سبيل المثال في المنزل والحضانة والمدرسة، تصحبها مراقبة من قِبَل الأهل، إلى جانب أخصّائيين مُتعدّدين: أخصّائيّ في العلاج الانشغالي أخصّائيّ في علاج النُطق إضافة إلى أخصّائيّ نفسي ونفس-حَرَكي، وأخصّائي تربوي، ويمكن اللجوء إلى طبيب أعصاب في بعض الحالات، وبرأي د. أبي طنوس إنه يجب أن نعطي للطفل الوقت الكافي لكي نرصد تطوّر قُدراته ومن بعد التقييم لقُدراته كافة يتمّ تشخيص الاضطراب الذي يُعاني منه الطفل.

وذكر د. أبي طنوس بعض الخطوات التي تساعد على علاج الطفل من خلال المنهاج التأهيلي والتربوي الذي يعتمد على الإشارات والصوَر لتصله المعلومة بالشكل الذي يتفاعل فيه معها، ويتمّ تطوير قُدراته الفكرية وتدريبه على التقليد، والتركيز على الحروف والألوان، وتركيب الجمل، فالهدف كما يُخبرنا أبي طنوس أن يكون هذا الطفل مستقلاً بحياته اليومية ومندمجاً بمجتمعه، بمعنى أن يتعلّم الأمور الأساسية بالدرجة الأولى، أي أن يأكل ويشرب لوحده، وأن يكتب ويقرأ ويرسم، حتى أنه يمكن أن يلجأ إلى الرياضة ويمارس هواياته وأن يقتني حيوانات أليفة فهذا يساعده على التقدّم في العلاج، كل ذلك سيحقِّق له توازناً نفسياً في الحياة.

وختاماً، فإن الأشخاص المختلفين ليسوا دون أي إنسان آخر، بل هم الأصل في تكاملنا نحن، هم الأساس في تعلّمنا الصبر وحب الحياة، وهم روّاد الحب الحقيقي، فلنتقبّل الآخر المختلف، فلنساعد على دمجه في المجتمع بطريقةٍ صحيحةٍ، فلنتعرَّف عليه كي لا نُخطئ التعامُل معه، جايسون ليس مريضاً!

وأخيراً فإني حقّاً أشعر الآن بلمسات جايسون.. كم كانت دافئة!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *