أخبار محليةالأخبار العاجلة

“حِرمان” في الميزان، بقلم: الدكتور مسلم مصطفى محاميد

مدينة أمّ الفحم تشهد حِراكًا ثقافيًّا بارزًا على مستوى السينما والمسرح. وأريد في هذا المبحث أن أسلّط بعض الضوء على عمل فنّيٍّ جبّار، قام به فتيةٌ من هذا البلد. واللافت أنّ القائمين على الفيلم لا يملكون من الأدوات إلّا القليل، ولا يملكون من المال إلّا ما صرفوه من جيوبهم الخاصّة. لكنّ ثروتهم الحقيقيّة هي الإرادة التي لقّنتنا درسًا هامًّا: وهو أنّ الإبداع يمكن أن يُصنعَ من أبسط الأمور ما دام المبدع مؤمنًا بما يقوم به.

 1

شهِدتْ مدينة أمّ الفحم مؤخّرًا، حِراكًا ثقافيًّا بارزًا على مستوى السينما والمسرح. وأريد في هذا المبحث أن أسلّط بعض الضوء على عمل فنّيٍّ جبّار، قام به فتيةٌ من هذا البلد. واللافت أنّ القائمين على الفيلم لا يملكون من الأدوات إلّا القليل، ولا يملكون من المال إلّا ما صرفوه من جيوبهم الخاصّة. لكنّ ثروتهم الحقيقيّة هي الإرادة التي لقّنتنا درسًا هامًّا: وهو أنّ الإبداع يمكن أن يُصنعَ من أبسط الأمور ما دام المبدع مؤمنًا بما يقوم به.

جمالُ فكرة الفيلم هو في أنّه مبنيّ على دعامتين أساسيّتين: الأولى، كون حبكة قصّة الفيلم مبنيّة على خطّة طبّيّة نفسيّة، هدفها إخراج بطل الفيلم من ورطة اجتماعيّة سببُها تلك الخلفيّة الأسريّة التي عاشها وهو طفل. يتمّ إحكام هذه الخطّة من قِبَل الأخصّائيّ النفسيّ وبمساعدة زوجة البطل وصديقه. لكنّ اللافت أنّ هذه الخطّة لا تظهر في بداية الفيلم ولا مع أحداثه، غيرَ أنّ مخرجَ الفيلم أتاح للمشاهد أن ينكشف على بعض ملامح هذه الخطّة بأسلوب تشويقيّ ضبابيّ الفكرة. وفعلًا يبقى المشاهد يتساءلُ طوال فترة مشاهدته للفيلم: ما هو دور هذا الرجل الذي يلاحق البطل كأنّه رجل مخابرات أو شرطيّ سرّيّ؟ وما علاقته بزوجة البطل وصديقه. والثانية، هي مفاجأة من العيار الثقيل يتركها المخرج إلى آخر لحظات الفيلم فيكشف سرّ الخطّة ويكشف سرّ علاقة البطل بطفل يتعرّف إليه صدفةً بحسب أحداث الفيلم.

البطل يكون قد انغمس في عالم الإجرام انغماسًا كاملًا، فهو يمارس القتل والسرقة وتجارة المخدّرات وجميع طقوس التخريب الاجتماعيّ. لكنّ ضميره يصحو بين فترة وأخرى، فيندم ويتراجع عن أعماله في بعض الأحيان. يتعرّف البطل إلى طفل فقير، فيعطف عليه ويساعده ويحميه طوال أحداث الفيلم. والطفل هو ابن لأسرة تعاني من وجود أبٍ مدمن على المخدّرات وعنيف، وأمّ تصبر على بلاء زوجها. يقوم البطل بمساعدة العائلة عدّة مرّات، ثمّ يموت الأب من جرعة زائدة من المخدّرات. وهنا تتطوّر علاقة البطل بالأسرة، فيجالس المرأة وأولادها إلى مائدة الطعام. وفي هذه اللحظة تدخل زوجته التي كانت قد غادرت بيته لكثرة خروجه من البيت وعدم اهتمامه بها. تدخل بيت الأسرة التي يساعدها زوجها، فتجدهم جالسين إلى المائدة يتناولون الطعام. فيأمرها أن تذهب إلى البيت فترفض، ثمّ تطلب كأسًا من الماء من يد صاحبة البيت. ثمّ تقول لزوجها: “هي لن تستطيع أن تمزج لي الماء. هل تدري لماذا؟” فيقول: “لماذا؟” فتجيب: “لأنّها غير موجودة”. وفي هذه اللحظة تختفي صور أفراد العائلة ويظهر البطل وحيدًا، في بيت قديم مهجور. هو بيت أبيه الذي فيه ترعرع. وفي حقيقة الأمر، فإنّ هذه المفاجأة تصعق المشاهد وتحدث في نفسه نوعًا من الثورة الجميلة ولونًا من الغضب المشوب بالرقيّ. فالطفل الذي رافق البطل في الفيلم هو البطل نفسه يستعيد طفولته بكلّ تفاصيلها، فيما أسماه الأخصّائيّ النفسيّ: “مرض الانفصام”. فلقد استطاع طاقم الفيلم أن يجسّدوا مرض الانفصام في مشاهد محسوسة، شكّلتْ بالإضافة إلى كونها درسًا هامًّا في علم النفس العلاجيّ، شكّلتْ منظومة مفاهيم وقيم اجتماعيّة هامّة. فبالإضافة إلى أنّ الفيلم يعالج بصورة واضحة جميع مفاهيم العنف والجريمة: كالقتل، وتجارة المخدّرات، والسرقة، والعنف الأسريّ، وغيرها، فإنّه يستعرضُ أسباب مآل كثيرين من الشباب إلى الجريمة. وإذا كانت عظمة الفيلم الجماليّة تكمن في الربط بين الحبكة المبنيّة على الخطّة النفسيّة وعنصر المفاجأة في نهاية الفيلم، فإنّ عظمته الفكريّة تكمن في تركيزه على قيمة الوقاية وليس قيمة العلاج. فالفيلم إذ يستعرض جانبًا من أسباب انزلاق الشباب في الجريمة، وهو الخلفيّة الأسريّة التي يمكن أن تكون فاتحة طريقهم إلى العنف والقتل وغيره، هو يستعرض بذلك الوقاية التي من الممكن أن تحمي الشباب من تلك الهاوية السحيقة.

في ظلّ ما يحدث في هذه البلدة من أعمال قتل وعنف على جميع الأصعدة، سواءظ كان ذلك عنفًا كلاميًّا، أو يدويًّا خفيفًا، أو يدويًّا ثقيلًا كثيرًا ما وصل حدّ القتل، فإنّ مثل هذه الأعمال الفنيّة يمكن أن تكون شموعًا في ظلام العنف والتخلّف، تضيء جانبًا ولو بسيطًا من حياتنا، لعلّ أحدًا ينتبه لها ويتقدّم نحو نورها بأمان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *