2كلمة حرة

في ذكرى رحيل محمود درويش

darwish3

صفحات مع محمود درويش

ب. فاروق مواسي

من سيرتـــي الذاتــيـــة:
………………..

في مثل هذا اليوم 9 آب قبل خمس سنوات (2008) رحل عنا شاعرنا العالمي المرموق محمود درويش، وفي هذه الصفحات التي كتبتها عبرت وبصدق عن كل ما لمسته أو رأيته أو سمعته – وذلك من خلال لقاءات يسيرة، فأرجو أن يعذرني المتعصبون له بشدة الذين لا يطيقون ملاحظة ولو هنة، فأنا أحبه مثلهم، فلا يؤاخذوني على لقطة هنا أو هناك مما لا يروق لهم ظانين أنها قد تمس بهالته أو إطلالته.

لقد أصدرت كتابي “قراءات في شعر محمود درويش” – دار الهدى، 2009، بعد سنة من فراقه، وهو يضم دراسات ألقيتها في مؤتمرات في البلاد وخارجها.

أما هذه الصفحات أدناه فهي مجتزأة من كتابي “أقواس من سيرتي الذاتية، ط 2، مطبعة ابن خلدون، 2011، (ص 257-272).

وفي هذا السياق لا بد لي من أعبر عن إعجابي الشديد بالمتحف والمباني الفخمة التي أقامتها السلطة الفلسطينية لضريحه في رام الله، حتى أصبحت مزارًا فخمًا لم يحظ به أي شاعر عربي بل غربي، وسأعطي علامات لي ولمن رأى رأيي في حينه أن يُدفن في رام الله، لأنني أيقنت أنه لو دفن في مكان آخر لكان قبره كسائر القبور، والله أعلم.

اصحبوني في كلماتي، ولا تحجموا بسبب طول المادة، ومن شاء فليحفظها لوقت آخر، فستقرأون الشاعر من منظار محب موضوعي.
…………………………………………………………………………………………………..

محمود درويش – كما عرفته

يوم التقيت درويشًا أول مرة كنا طلابًا في المرحلة الثانوية. جاء هو ليعمل في كيبوتس عين شيمر، وكان معه أخوه أحمد، وصديقه محمد علي طه، والكيبوتس هو على مبعدة ستة كيلومترات من بلدتي.
عرّفني صديق به بنوع من المباهاة التي لم أدرك سرها: هذا هو محمود درويش!
كان فتى طويلاً وجميلاً، وخصلات شعره الكستنائي تتهدل على طرف جبينه، وكان يتحلق حوله عدد من أبناء الجليل يطلقون النكات التي نفتقر إلى حيويتها نحن في المثلث، بل إن بعضها لم أفلح شخصيًا في سبر غورها، فكنت أكتفي بالابتسامة.

وتمر الأيام!
أزور مقر مجلة الجديد في حيفا، حيث كان محمود رئيس التحرير، فيرحب بي، بل أرافقه وسميح القاسم إلى مطعم قريب، وكنت أدلّ عليهما بكثرة حفظي للمتنبي، وأدعي أن شعره يفوق شعر شكسبير وغوته وطاغور و…، وبالطبع فلم أكن قرأت هؤلاء إلا لمامًا. فإذا بهما في حوارهما يغمزان ويلمزان علي بين الفينة والفينة، ويسألان بعد كل جملة ومقولة، وفي سياق ومن غير سياق: وما رأي المتنبي؟ فعلِـقت، ولا أدري كيف كفّا عني.
أذكر يومها أن محمودًا قال لي إن سميحًا هو”صديقي اللدود”. تعلمت العبارة الجديدة المفاجئة والمدهشة لي لغويًا، وتبين لي فيما بعد أن هذا التركيب هو في البلاغة الغربية (oxymoron) وترجمته العربية: الإرداف الخُلفي.
ومع أني شعرت بالزهو في صحبتهما، إلا أنني كنت أشعريومها أن سميحًا أقرب علي وأندى.

وتمر الأيام!

أشاهد في التلفزيون المصري فتاة يهتز لها البدن تمتدح شعر محمود، فخيل لي في كل كلمة من كلماتها أنها متلهفة عليه، تبحث عنه. واتفق أن تلاقينا بعد أسبوع في حيفا قرب سينما الهدار، فأخبرته عن اللقطة واللقطة، فلمست لديه نشوة وزهوة، وقلت له: مكانك هناك! ولا أدري لماذا خطرت في بالي فكرة رحيله رغم أنه قال بإصرار:
أه يا جرحي المكابر
وطني ليس حقيبة
وأنا لست مسافر
إنني عاشق.. والأرض حبيبة

سافرمحمود أولاً إلى موسكو سنة 1970، وقبل انتهاء السنة وصل إلى القاهرة، وتشاء الصدفة أن أستمع إلى مذيع القاهرة وهو يرحب بالشاعر. وتابعت الحوار الحاد في صحافة الحزب الشيوعي حول صحة موقفه أو خطئه، ولم أتخذ شخصيًا موقفًا، كما يتخذ الواحد منا – افتراضًا- موقفًا بين كل تناقضين.
لكن قولة راشد حسين عندما جاء يزوره، وقد أوقفوه في المطار ظلت تهزني، فأكاد أبكي وأنا أتخيل:

واقفٌ
إنيَ واقف
في مطار القاهرة
ليتني كنت طليقًا
في سجون الناصرة!!!

فأدرك أن درويشًا أيضًا لا يحظى كفاية بما يجب أن يحظى به، بل ربما هو صاحب الكلمات التي وردت على لسان راشد، والشكوى مريرة، لا لسبب إلا لأنه فلسطيني!!!

وتمر الأيام!

دعاني سميح القاسم رئيس اتحاد الكتاب العرب في إسرائيل، وكنت يومها نائب الرئيس (أو النئيس حسب النحت) أن أرافقه إلى لندن لمهرجان رياض الريس للثقافة (6-15 تموز 1988)، وقد سعدت جدًا بصحبة سميح وطه محمد علي، وتعرفت إلى نزار قباني، محمد عفيفي مطر، أحمد مطر، غالي شكري، صبري حافظ، عبده وازن، يحيى جابر، زكريا تامر، مها الخال، نضال الأشقر، أنسي الحاج، فوزي كريم، وسركون بولس، ومحيي الدين اللاذقاني، ومي غصوب، وسعاد الصُّباح، وإنعام كجه جي، وظبية خميس، خلدون الشمعة، وياسين رفاعيه، بالإضافة للمضيف رياض الريس وصاحبه عبد الغني مروة.

كان محمود درويش وجهًا بارزًا ومميزًا، يتحلق حوله الأدباء، وكأنه كعكة كل لقاء، تجده يدخن بهدوء تارة، وطورًا يتحدث بسرعة، يمتلك قوة مغناطيسية تجذب المتلقين، حتى في كلماته الغامضة المؤدى لعمقها، تجد الواحد مثلي يهز رأسه موافقًا، وأحيانًا من غير إدراك لمرماها، أو يعترض بجملة هنا أو هناك ليدل بذلك على متابعة.

دعانا سفير فلسطين في المملكة المتحدة السيد فيصل عويضة لزيارة منزله، فأقلتنا سيارة، وكان بصحبة محمود ثلاث من الفتيات الجميلات. كنت أختلس النظر إلى جلسة واحدة منهن على ركبته بنوع من الغيرة آنًا، وبالإعجاب آنًا. وبالرغم من الحراسة المشددة حول المنزل إلا أن السهرة كانت مميزة، وفيها أصناف الطعام والشراب، وكان بلند الحيدري يصدح بأغانٍ عراقية أسيانة، وسميح قد فك ربطة رقبته وأرخاها، وأبدع في إطلاق النكات.
أما محمود فكان يجلس في جانب من الغرفة مع كأسه التي يرتشف منها رشفات يسيرة، ويتابع إجاباته لأسئلة يسألها بعض السامرين في السياسة. كنت أنصت إليه فأنبهر بصياغة جمله، وبقدرته على تركيب المعاني في لغة مدهشة، وأجد لديه تفاؤلاً غريبًا بحتمية انتصار القضية الفلسطينية.

في اليوم التالي، وفي لقاء آخرفي قاعة الاستقبال لفندق لندني سألني أسئلة شخصية اهتم بها، وسألني عن الأصدقاء في الجليل وعن أخبارهم. ثم تحدثنا حول أطروحة الدكتوراة التي أنتظر إجازتها بفارغ الصبر، وأنني كتبتها بالعبرية، فعجب أيما عجب، وسأل: كيف يتوافق في جامعة إسرائيلية تدريس العربية بالعبرية؟
فأجبته: نحن لا نتعلم العربية لغة وإنشاء في الجامعة، بل تسعى الجامعة إلى أن نمتلك أدوات نقدية وبحثية، وهذه يمكن أن تتأتى بكل لغة.
كنت سألت محمودًا -بعد أن سمعت عن الدعم المادي هنا وهناك- أن تجد مجلة اتحاد الكتاب العرب 48 بعض ما يقيم أودها، أسوة بالمجلات الثقافية الفلسطينية. وظننت أن محمودًا تجاهل الموضوع، لكنه وقبل سفرنا عائدين همس في أذني:”مع سميح ما يمكنكم أن تستمروا في إصدار المجلة”.
لما آن أوان الوداع وقف قبالتي، وطلب مني تبليغ السلام إلى الأصحاب وإلى أهله، فسألت بصوت متهدج: متى يا محمود تكون بيننا؟ ومع القبلات كنت أرى دمعة تنزلج من وراء زجاج نظارته البيضاء، وشاهدت أمارات الانفعال والحزن عليه.
خرجت مودعًا، وإذا بي في سيارة الأجرة أبكي، وكانت صورة دمعته مصاحبة لي.
(ذكرت اللقطة هذي في كلمتي على ضريح محمود درويش في ذكرى وفاته الثانية، وذلك قبيل حضور الرئيس الفلسطيني أبو مازن، وكانت الزيارة بمبادرة مؤسسة محمود درويش في كفر ياسيف في 11/8/2010).

وتمر الأيام!

وجه لي الأخ أسعد عبد الرحمن وهو شخصية فلسطينية نشطة دعوة عشاء باسم مؤسسة شومان التي كان يرأس إدارتها في يوم (3/3/1995) في عمان. حدثني أسعد أن محمود درويش يقيم في فندق عمان في عمان.
اتصلت في اليوم التالي، بعد الحادية عشرة صباحًا، وبإلحاح الشوق كررت الاتصال حتى أجابني، وتواعدنا في بهو الفندق.
عندما حضر محمود كان بانتظاره أيضًا الشاعر حيدر محمود، وكان أيامها سفير الأردن في تونس، وعرفت منه أنه من طيرة حيفا.
ثم انضم لنا أسعد، ولكني لم أجده في حضرة محمود كعهدي به بشوشًا مرحًا، ولا أدري سر ذلك، مع أنه أوصلني بعد السهرة الطويلة أنا وزوجتي بسيارته الفخمة جدًا.
سألني محمود: كيف تقضي وقتك في عمان؟
أجبته بالأمس زارني أبو علي (البياتي) في فندقي، وقد أهديته بعض كتبي.
– ألم يشتمني؟
– لا، بالعكس امتدحك.
– مش معقول، انقلبت الدنيا؟
(الحقيقة أنه اغتابه، وهزئ من فكرة حضور لقاءات محمود الشعرية بتذكرة دخول، ويحمّله المسؤولية في ذلك، وقال ساخرًا: سأذهب وأدفع تذكرة دخول. وقال أكثر من ذلك).
لاحظ محمود أنني غير صادق، فقال:”لا يدع أحدًا من شره”.
قبل أن أودعه سألته إن كان بالإمكان أن يلتقي مجموعة سياحية من باقة سألني بعض أفرادها متحمسين أن أدعوك، للتعرف إليك، والالتقاء بك.
أجاب محمود: نعم، سنلتقي الليلة الحادية عشرة.
أخبرت المجموعة، فإذا بهم يتزاحمون على مقاعد البهو، ويفترشون البسط وهم ينتظرون.
ولم أصدق أن عقارب الساعة تتجاوز الحادية عشرة من غير أن يحضر، وأصابني الحرج أمام المجموعة المتلهفة لرؤيته، وقد أردت أن أفاخر أمامهم بصداقتي للشاعر، وانتظرنا وانتظرنا، وهيهات!
علمت فيما بعد أنه كان في سهرة مع الدكتور خالد الكركي- وزير الثقافة آنذاك.

وتمر الأيام!

دعيت أنا ونخبة من أدبائنا في الجليل والمثلث يوم 25 حزيران 1999 لنكون ضيوفًا على تأسيس اتحاد الكتاب الفلسطبينيين في رام الله، وكان محمود يشرف على نجاح الاتحاد، وهو ضيف الشرف فيه. كانت هناك ملاحظات بيننا عابرة.
كنت قد دعيت قبل ذلك (22/3/1997) لحضور مهرجان الثقافة الفلسطيني الأول في بير زيت، وكان محمود –كالعادة- الشخصية البارزة التي يتحلق حولها الجميع.
سجلت يومها نقطتين لا بد من ذكرهما:
* الأولى أن بعض أدبائنا المحليين ألح علي أن أسهر في رام الله معهم بصحبة محمود، وذلك لما علموا أن محمودًا مدعو لمطعم فخم في رام الله، فآثرت أن أقفل راجعًا إلى باقة، وآثر الزملاء أن يتأخروا في رام الله لعلهم في تلك الأمسية يتجاذبون أطراف الحديث مع محمود.
وكان أن انتظروا، وانتظروا، وكان – كما قيل لي- قد أفردوا له مقعدًا، فإذا بصاحبنا يقبل مباشرة على مائدة في الطرف، ويجلس، وكأن بين الجالسين حولها وبينه اتفاقًا للقاء على العشاء. (هكذا حدثني أديب متألمًا، ومنتقدًا، وحامدًا اختياري في العودة).

* والثانية: كنت ساعتها أرافقه في الخروج من قاعة جامعة بير زيت، وإذا بشاب يتوجه إليه وهو يدفع بيده الميكرفون للتسجيل: أستاذ محمود هل بدقيقة لتوجيه سؤال لك للإذاعة؟
– أية إذاعة؟
– إذاعة طلاب بير زيت، ونحن سنفخر بحديثك، بل حديثك تاج للإذاعة.
– آسف!
وقد ألمحت إلى ضرورة المقابلة ولو لدقيقة تشجيعًا للطلبة، لكنه أشاح بوجهه، ومضينا كل في سبيله.

وتمر الأيام!

كنت أتناول غدائي بصحبة الصديق نواف عبد حسن في مطعم في رام الله، وإذا بمحمود يقبل مع بعض رفقته، فألححنا بالدعوة، لكنه اعتذر. ثم أخذ يسألني -بعد أن انضممنا نحن إلى طاولته لدقائق- عن ترجمة أشعاره للعبرية وقد صدرت حديثًا عن دار”أندلس” العبرية، فأبديت عدم رضاي، وقلت له: ثمة العشرات من الأخطاء، ورأيي في الترجمات ألا يركن إلى المترجم فقط، بل تجب المراجعة.
ذكرنا مجلة الكرمل، وقلت له: أتعرف أنني أحتفظ بجميع أعدادها سوى ثلاثة أعداد، فقال:”عجيب، فأنا لا أحفظ الأعداد، فإذا احتجنا فلنا عنوان”.
(في لقائي مع حسن خضر يوم 10/6/2011 في جامعة بيت لحم، وهو مدير تحرير المجلة أكد لي أنه يمتلك جميع الأعداد في محل إقامته في ألمانيا، وأنه عاكف على إصدار العدد الأول من الكرمل الجديد).
قلت له: أتعرف يا أبا سليم أننا أردنا أن نكون إلى جانبك في باريس يوم العملية.
شكرني، وقال بلهجته المميزة:”كلك ذوق”، وظلت العبارة تتصادى لدي، خاصة بنكهتها وبنغمتها الجليلية التي لا نستخدمها نحن في المثلث.
ثم كان لي أن أبديت له عدم رضاي من لجنة التحكيم لجائزة القدس التي يشرف عليها، فأعضاء اللجنة لا يتغيرون. (جدير بالإشارة إلى أنه حتى في”جائزة محمود درويش” التي أعلن عنها بعد وفاته بقيت غالبية الأسماء نفسها في لجنة التحكيم.)
لم يعلق محمود، ولمست أن نقدي لا يعجبه.

تمر الأيام!

لا أدري السبب في أنني لم ألب دعوة وجهها مجلس كفر ياسيف في 27/6/2000 يوم أن عقد له مهرجان احتفائي ضخم، وكانت لي دعوة خاصة لأكون بين المستقبِلين.
ولا أدري السبب الذي جعله يرفض العودة إلى حضن أمه ويشرب من قهوتها، وذلك بعد أن كلفني يوسي سريد بعرض فكرة العودة عليه، وسريد من الإسرائيليين القلائل المناصرين نسبيًا لحقوق الفلسطيني، وقد أدخل قصائد درويش ضمن منهاج الأدب العبري، وذلك يوم أن كان وزيرًا للمعارف.
عرضت الفكرة، وهيهات!

تمر الأيام!

أترقب ويترقب معي الآلاف من محبي محمود نتائج العملية التي جرت في الولايات المتحدة، ننتظر نجاحها، ندعو له، وأقلق كأن الريح تحتي.
أهتز لوقع الخبر- الصاعقة!

في اليوم التالي (10/8/2008) أصحب وفدًا من مجمع اللغة العربية في حيفا، فنتوجه للجديدة، حيث بيت العزاء. ألقيت كلمة عبرت فيها عن هول الخسارة الجسيمة، وأننا فقدنا في اللغة العربية صاحب صولجانها وعنفوانها، ونقلت عزاء وزير الثقافة آنذاك غالب مجادلة الذي كان في الصين. وقد لاحظت عين اللا رضا على عضو الكنيست محمد بركة على غير ما ألفناه بيننا من مودة، وكأنه ظن أنني أصبحت معراخيًا (من حزب الوزير).

بعد يومين أقلتنا الحافلة نحن وفد الأدباء والكتاب إلى رام الله لحضور الجنازة.
الأبهة، العظمة، المهابة كانت في الجنازة. مئات الشخصيات الفلسطينية تتعرف إليها وأنت في غمرة حزنك.
حضرت الطائرة التي أقلته من عمان، وراقبنا كل حركة وكل طوفة للهليوكبتر، وكيف أنزلوا الجثمان، وحمله الجنود، وكيف أطلقت المدافع تحية، وكيف سار النعش بين صفين من الجنود، والجموع من كل جانب مشدوهة وحزينة.
كنت أنظر إلى النعش، وعيوني يغمرها دمع.
ألقى أبو مازن الرئيس الفلسطيني كلمته، وألقى سميح القاسم كلمة مؤثرة وجميلة، صادقة وأصيلة، لم أملك بعد أن فرغ منها إلا أن أقبله إعجابًا وتحية.
ثم توجه الجمع إلى المكان المعد لدفنه، وكنت في ذلك الجدل الذي دار حول الدفن، من الذين أيدوا دفنه هناك، لأن المكان سيكون محجًا للفلسطينيين، وهو بالقرب من مركز ثقافي ضخم، وفي مدينة الثقافة الفلسطينية، وأن هناك قطعة أرض مخصصة، والمكان فلسطيني أيضًا، وفلسطين واحدة.
مع انفعالي الشديد لوفاته فإنني لم أكتب لا شعرًا ولا نثرًا في رثائه، بيد أني تحدثت في أكثر من برنامج إذاعي وتلفزيوني عنه شاعرًا، وقرأت كل ما كتب عنه، وما أكثر ما كتب!
وربما كان هذا الفيض من الكتابات حال دون كتابتي، فكثيرًا ما يجد الكاتب مادة كتبها سواه، فيقول: هذا ما أردت أن أقوله.
لكني شاركت في عشرات المواقع التي أبّنت أو تحدثت عن الشاعر، منها مؤتمر جامعة بير زيت (11/3/2009)، ومؤتمر مجمع اللغة العربية في حيفا (4/10/2008)، حيث تحدثت فيهما عن قصيدة”أمي” لدرويش، وحللتها، وأذكر تعليقًا جميلاً للشاعر شفيق حبيب وأنا أقرأ القصيدة عن ظهر قلب في مؤتمر المجمع:”أنت تقرأ بانفعال، وكأنك تتحدث عن أمك”.
قبل ذلك كانت ندوة في طولكرم (21/8/2008) شاركت فيها رغم الحصار، وسلكت فيها طرقًا جانبية حتى وصلت إلى المنتظرين، وتحدث عن شعر درويش في مراحل مختلفة من عمره.
في 20/10/2008 كان مؤتمر جامعة النجاح، فتحدثت عن أسباب سيرورة شعر درويش متوقفًا على المستويات الشعرية، والجاذبية الخاصة له من خَلق وخُلق، وتنافس السياسيين في تلقيه. وقد نشرت الأيام، والحياة الجديدة مختارات مما قلت.
وشاركت في مؤتمر عالمي في جامعة سوسة في تونس حول الخطاب السجالي (2-4 /نيسان 2009)، وكانت ورقتي عن”الخطاب المشحون كما يتجلى في الحوار السجالي في شعر درويش”.
ثم شاركت في مؤتمر الجامعة الأردنية حول اللسانيات والأدب (4-7 أيار 2009)، فتحدثت عن سلطة النص وسلطة المقاومة لدى درويش من خلال قصيدة”سجل أنا عربي”!.
أصدرت كتاب محمود درويش- قراءات في شعره، ضم مقالة”مالئ الدنيا وشاغل الناس”، و”قصيدة -إلى أمي- وتفاعل اللغة فيها، وتحليل قصيدة”سجل أنا عربي”، و”الخطاب المـشحون في الحوار السجالي مع إسرائيليين”، و”قراءة أولى في قصيدة الهدهد”.

أما في الترجمة إلى العبرية فقد ترجمت قصيدة”جندي يحلم بالزنابق البيضاء”، وكذلك قصيدة”سيناريو جاهز”، وقد نشرتا في مجلة غاغ – مجلة نقابة الكتاب في إسرائيل.

وأود هنا أن أختم بمقدمة هذا الكتاب، وهي تلخص رؤيتي لشعره:
مع صحبتي له ولشعره- صحبتي له في بضعة لقاءات لا تتجاوز أصابع يد، وصحبتي المتواصلة لكتابته مع حروف له أو عنه- كنت أتساءل من قبل ومن بعد:
ما سر هذا التألق؟ هذه الشعبية؟ هذا الاستقبال الحقيقي والمجازي؟
كيف تسنى للكلمة أن تجد لها من يضفي عليها طابع القداسة- مع تباين في مستويات المتلقين وتأويلاتهم؟
يوم أن شاركت في جنازة الشاعر المَهيبة شاهدت بأم عيني دموعي ودموع الناس، وساعة أن حملوا جثمانه تمنيت أن يحمله الشعراء وأرباب الحروف، ولحظة كان صوته المسجل يقرأ كان خشوع، وكنا وكأن على الرؤوس طيور الحزن، تتلو بصمت قصائده.

تابعت ما ينشر عبر الإعلام الورقي والصوتي والمشهدي والألكتروني، تصفحت أو شاهدت أو أنصتّ لجل ما قيل في الغائب الحاضر: آلافًا مؤلفة من النصوص بصدقها وأصالتها أحيانًا، وبتدبيجاتها وبغلوها أحيانًا كثيرة. وندر بين الأدباء من لم يدل بدلوه – من المحيط إلى الخليج-، ليعبر كل بأسلوبه عن فداحة الرحيل، وتنافس الشعراء والكتاب والسياسيون في تلاوة آيات الأسى والشجن.
سألني من سأل:
ماذا؟ ولماذا؟ وما سر هذا التيار الهادر في محبة هذا الشاعر؟

هل هو تقدير للشعر؟
إن كان ذلك كذلك فمعنى هذا أن شعبنا يقرأ، ومجتمعنا مثقف، ويحب الشعر ويستمع إليه، ويتابع النصوص، وهذه الألوف المؤلفة يوم جنازته تقدر الشعر في شخص الشاعر المميز.

هل هو تقدير للوطن؟
إن كان ذلك كذلك فمعنى هذا أن الناس وطنيون، شغلهم الشاغل الأرض وفلسطين، وهذه الألوف المؤلفة تتلاقى عند وطنيته، وذلك في ظل تخوينها لبعضها البعض، فلدى درويش القول الفصل وطنيًا وموقفيًا، والناس يرون فيه العنوان، وأشعاره حتى وإن تحفظ هو من إضفاء صبغة عليها فهي شاء أم لم يشأ الفلسطينية الهوية، والمعبرة عن الصوت الجمعي. وسيظل هو الشاعر الوطني حتى لو دفع شعراء آخرون ثمنًا أبهظ لوطنيتهم سجنًا واعتقالاً وموتًا.

أجبت:
محمود درويش مالئ الدنيا بعد المتنبي وشاغل الناس، وثمة أكثر من سبب لذلك، تتوافى معًا، وتؤلف كلاً واحدًا، وسأجتهد في بيان ذلك:

تحرر محمود من المواقف السياسية:
انتسب محمود في مطلع شبابه، وفي فترة محدودة للشيوعية، وهي الفترة التي ساهمت في انتشار شعره والتعريف به أسوة بكل الشعراء الماركسيين العالميين، وذلك عبر الترجمات والمهرجانات المحلية والدولية. من هنا نبدأ.
لكن محمودًا بعد أن قرر أن يهاجر لم يلتزم طويلاً لحزب أو لتيار سياسي عربي، وهذا ينبع لديه من موقف أدبي وفكري متعال، ولذلك رأيناه يعزف عن المناصب، فهو في الداخل وليس فيه، وهو ضد أوسلو ويعود إلى الوطن باتفاقياتها، هو مع عرفات وشاعره، ويتحفظ من اتفاقياته بحدة، ويدفع ثمنًا لذلك. هو يكتب وثيقة الاستقلال، ومع ذلك لا يريد البقاء في المجلس الوطني الفلسطيني، إزاء ذلك، وبسبب التباين الموقفي نجد أن كل حزب يجد أبياته وأدبياته في شعر درويش، ويفسرها وفق منظوره. يعزز ذلك ما يلي:

عدم تقيد محمود بالتيارات الشعرية:
هو شاعر متجدد، شعره فيه السهل، وفيه الصعب المرتقى، فيه مراحل ومستويات وفي فترات، ويختلف القراء والنقاد حول أيها أجود، غير منكرين حق الشاعر في التعبير عن نفسه بطريقته، فإذا لم تعجبك” أنا يوسف يا أبي” مثلاُ، فما يعجبك من قصائده عشرات غيرها. وهذا التباين في كتابات الشاعر أدى إلى تباين في التلقي، وهذا التباين أدى إلى منافسة بين القراء وبين النقاد.
لم يعاد محمود أي تيار شعري، فهو مع كل تجديد، ويتحفظ أحيانًا من خلو شعر النثر من الموسيقا، مع أنه يصادق شعراء قصيدة النثر، بل ينشر في الكرمل – مجلته – ما يختلف عن منظوره الشعري؛ وهو من جهة أخرى مع الحداثة ومع الكلاسية والرومانتية والواقعية والسريالية على اختلافها، وصولاً إلى النثرية الفنية. هو يقف بعيدًا عن المعارك الأدبية رغم أنه يصاب كثيرًا من رشاشها ومن التطاول عليه، لكنه يظل أنوفًا من الرد وكيل الصاع أضعافًا. ويظل رأيه في أن هذا الاختلاف نابع من إيمانه بالشعر وحده، فاعطني شعرًا، ولا يهمني كيف؟
يعزز ذلك تحليه بـ (الكاريزما).

الكاريزما أو الجاذبية:
لا يستطيع الفاحص أن يتبين تمامًا سر هذه المهابة البالغة التي تُضفى على سياسي مثلاً، فينسى الناس معايبه وأخطاءه، ويتركزون على كل صغيرة في حياته ينسجون منها أروع ما يحبون قولاً وفعلاً وصلاة. هل هي حاجة متأصلة لدى الناس يبحثون لهم بين الفترة والأخرى عن سياسي أو فنان أو بطل لينشدوا له أجمل التراتيل.
سأترك دواعي ذلك لعلماء الاجتماع ولخبراء علم النفس الاجتماعي، ولكني موقن أن الفرد لا يستطيع أن يجاهر برأيه إذا كان مخالفًا لجماعة متعصبة، فإما أن يسكت، وإما أن يخفف من حدة رأيه حتى يسلم. وحكاية الأعرابي الذي زار حاتمًا ولم يكرمه معروفة، فاضطرار الأعرابي لأن يقول إن حاتمًا أكرم وفادته هي كحكاية دكتور للأدب العربي في جامعة بير زيت الذي استمع إلى قصائد للشاعر، فاضطر إلى الحديث عنها بإعجاب متناه، بعد أن كان يتعسر منها، لئلا يتهم في ذكائه وفي تذوقه للشعر.

استطاع محمود أن يصل إلى القلوب لشخصيته التقبلية الحميمة، فهو قريب وبعيد في نفس الآن، وإذا طلب على قلة ما يطلب تحس كأنك مسؤول عن تلبية طلبه، وإذا دمعت عيناه أبكاك أكثر، فهل هذا بسبب الغربة؟

الغربة وتأثيرها:
ترك محمود وطنه وهو في ريعان شبابه، وقبل ذلك هُجّر من بروته وهو صبي. تنقل من منفى إلى منفى، وعانى ما عانى، وحفظ الناس روايته، فرأى الناس أنهم أمام حزن ومعاناة، بل مأساة، تجسمت في أوجها لدى رحيله الفاجع. وتوازت أو تماهت قضيته بقضية الوطن، فكانت كتابته تعبيرًا مباشرًا أو غير مباشر عن هذه القضية، فحضوره إذن تمثيل للوطن، حتى لو أراد هو لشعره أن يُنظر إليه مستقلاً، وبمعايير الشعر الفني فقط.
ومع ذلك فليس كل غريب عن وطنه يجد هذه الأصداء المتجاوبة، ولكن محمودًا وجدها بسبب خُلقه وخَلقه.

الخَــلق والخُـــلق:
هو جميل ووسيم في حضوره، فيه هدوء الصخب، وصخب الهدوء، وفيه تواضع بكبرياء وكبرياء بتواضع.
هو أنيق في ملبسه ووسيم في شكله، شاب في روحه، لا يعرف معنى للتعصب، يحب الحياة، وبعيد عن الحقد، بل يترفع عن الرد على الكيد.
وكما ذكرت فهو قريب وبعيد معًا. من هنا كان له محبون أكثر. وقد ترك الحوار حوله وحول شعره للآخرين دون أن يتدخل. لذا وجدت هناك من يعشقه، ومن تعشقه، ومن يعشق سلوكه وطيبته. يضاف إلى ذلك أداؤه الشعري المميز.

الأداء الشعري:
يظل إلقاء محمود لشعره مؤثرًا، وتظل شخصيته مثيرة جدًا لدى المتلقي، فالشاعر يعرف كيف يحاور الكلمة ويداورها نغمًا وتوقيعًا وأثرًا- حتى لو لم تكن مفهومة لدى المتلقي، فهي تعبرعن صدق ملموس يمطر به مطرًا ناعمًا في جو ثقافي، أو فكري أو نفسي متواصل. يتواصل بموسيقا يجدها كل متلق وفق ذوقه. وقد خلب إلقاؤه ألباب السياسيين أيضًا على قلة اهتمامهم بالثقافة والشعر، فكنت تجد بعضهم في الصف الأول لسماعه.

اهتمام السياسيين بشعره:
ليس هناك من شاعر حرص السياسيون في السلطة الفلسطينية وفي العالم العربي أن يستمعوا إليه يماثل درويش، بل إن هذه الجنازة، وبمن شارك فيها، وهذه الحفلات التأبينية، والإصرار على إخراج الوفاة وكأنها جزء من نشاط وطني فلسطيني، وبمشاركة فعالة على جميع الأصعدة- في جميع مواقع الفلسطينيين جعلت الشاعر وكأنه جزء لا يتجزأ من فعاليات الأحزاب أو السلطة. ويبدو أن محمودًا في السنوات الأخيرة كان قريبًا من جميع أصحاب النفوذ في العالم العربي ولدى الفلسطينيين، فلم ينشر في دواوينه وفي حياته ما يمكن أن يُفهم منه أنه هاجم به نظامًا من أنظمة الحكم العربي، مع أنك تجد هنا وهناك غمزًا لذا أو لذاك. وكانت علاقاته بقادة العرب في الداخل جيدة على اختلافات بينهم، فوجد كل منهم في الشاعر صوته وصوت منهجه السياسي والحزبي، بل رأى اليسار الإسرائيلي أنه شاعر إنساني وليس عدائيًا، وليس أدل على ذلك من بعض قصائده التي أثارت أكثر من نقاش.
كل هذه الأسباب معًا جعلت محمودًا مالئ الدنيا كجده المتنبي وشاغلاً للناس، وهذا لا ينفي مقولة من يرى أن السبب كامن في شاعريته فقط، أو في تمثيله للقضية، أو… لكني أرى أن الشاعر سطر اسمه في تاريخ الأدب بسبب هذه كلها معًا.
إننا نذكر اليوم المتنبي بعد ألف عام ونيف يومًا بعد يوم، وستذكره أجيال لاحقة جيلاً بعد جيل، بل إن الشعراء قديمًا وحديثًا يختلفون فيما بينهم في مقاييس الشعر ومعناه، لكنهم يتفقون أن المتنبي هو الشاعر الأبرز. وهكذا سيرفع الأدب لدرويش ذِكره، ففي تقديري أن درويش سيُدون في أنصع صفحات الأدب العربي إلى ما بعد ألف عام، وستذكره أجيال لاحقة جيلاً بعد جيل، فنان صياغة، وعاشق أرض، وصاحب رؤيا، وفي تقديري أنه سيتفق الشعراء والنقاد عليه حتى لو تفرقت بينهم السبل.
ثم،
وفاء لذكرى محمود تأسست في كفر ياسيف”مؤسسة محمود درويش للإبداع” (30/10/2009)، وتم اختياري ضمن كوكبة أخرى من أدبائنا عضوًا في المجلس الاستشاري، وتصبو المؤسسة –كما ورد في حيثيات تأسيسها-“إلى المحافظة على ذكرى الشاعر محمود درويش من خلال إقامة الندوات الأدبية، جمع تراث الشاعر وإعادة طباعته، تشجيع الأبحاث الأكاديمية الأدبية بشكل عام وأدبه بشكل خاص،العناية بالإنتاج الأدبي والفني الإبداعي”.

darwish5

‫3 تعليقات

  1. شكرًا لك على سودة الراقي وسيبقى درويش حيا فينا وبيننا فالعلماء لا يموتون أبدا..لماذا تركت الشعر يتيما يا محمود؟

  2. رائع رائع رائع بروفيسور فاروق!

    كنت قد زرت متحفه في هذا العام، أحسست بروحه كأنها تحدثني وتقول: أنا هنا روح بلا جسد ،أحسست بابتسامته أكاد أسمع صوتها وكأنها حية.
    وقفت أمام مكتبه، تأملت وتأملت…. كان معطفه معلقًا على حافة كرسيه،
    يا إلهي! إنه هنا كأنه يراني،بكيت عليه بشدة،نظرت إلى مرآته ،كان ينظر فيها إلى نفسه، ويحدثها عن فلسطين، وكيف هي محفورة على أوراقه، وفي قلبه كالنقش على الحجر، حدثته بصمتي…..
    سمع قطرات دموعي كيف تتساقط على الأرض كاللؤلؤ.،قال:
    لا تبكي قلت لك “إنني هنا مازلت وسابقى ..”
    كم كان بودي أن ألمس معطفه، أحتضنه ،أشمه!
    كم كان بودي أن أمسك قلمه الذي كان على حافة مكتبه وكأنه ينتظر لمسات يد صاحبه!
    وبهذه السيرة عدت لتلك الزيارة التي أخذتي إلى ما فوق السحاب،..

    لم أترك حرفًا من سيرتك حوله يفلت مني.
    تابعت كل نقطة وفاصلة..إلا أن أكثر المقاطع أثر بي يوم وفاته، فقد أحببت أن تفصل أكثر وأكثر ،هناك وأنت تحدث عن تلك اللحظه اغرورقت عيناي، وارتعش جسدي، وكأنني أسمع صوت نحيب من أحبوه، وأرى دموعهم كنهر يسيل بالصحراء الحارقة.
    أحسست كيف بالغربة كان وحيدًا دون أن يرعاه أحد، وأكثر ما خطر ببالي في غربته وتساءلت به كثيرًا: ماذا لو مرض؟من سيرعاه؟؟

    إن سيرتك الذاتية هذه بمثابة تاج من اللؤلؤ والألماس فوق رأس مقالاتك في السيرة، لأنها أخذتني إلى أروع إحساس شعرت به من سيرتك الذاتية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *