5كلمة حرة

مشط من عظم وحمار مطيع – قصة حقيقية

بقلم: ناضل حسنين – لم يستطع النوم طوال الليل، ظل يتقلب في فراشه رغم الظلام في الغرفة، الى ان سمع المؤذن ابو حسني الشيخ علي يصيح بصوته المجرد من أي مكبرات من اعلى المئذنة داعيا العباد الى أداء صلاة الفجر.

صورة لمنطقة احداث القصة: من صفحة "الطيبة بين الماضي والحاضر" على فيسبوك
صورة لمنطقة احداث القصة: من صفحة “الطيبة بين الماضي والحاضر” على فيسبوك

افاق والده كعادته وراح يبحث عن ابريق معدني يملأه بماء للوضوء ثم اداء صلاة الفجر. ووالده شيخ رغم شبابه، واطلاق تسمية شيخ عليه اقرب الى اللقب من ان تكون رتبة دينية. نهض الاب مستجيبا لنداء “قد قامت الصلاة”، فغطس الصبي تحت فراشه هربا من عيون ابيه كي لا يقع ضحية تحقيق الفجر عن سبب يقظته في مثل هذه الساعة. وما هي إلا بضع دقائق في المخبأ تحت الغطاء حتى غاص في النوم دون ان يدرك كيف.

عند الصباح ايقظته شقيقته الكبرى ولم تكن تعرف التوقيت تحديدا، فنهض بملابسه ومد كفيه لتسكب فيهما شقيقته بعض الماء من ذات ابريق الوضوء، غسل وجهه وفرك عينيه بمزيد من الاهتمام كي يصحو. وانهى الفقرة الصباحية المبلولة بأن مسح شعره بيديه المبلولتين ليسهل تسريح شعره الاملس الغزير بعد ذلك.

اخرجت شقيقته من دولاب والدتها المقعدة مشطا كانت قد احضرته من بيت العزوبية قبل نحو اثني عشر عاما، وهو لا يزال بكامل اسنانه لأنه مصنوع من العظم ولا ينكسر. سرحت شعر شقيقها فبدا وكأنه دي كابريو في فيلم “تايتانيك”.

جلبت حقيبة تشبه السلة زرقاء اللون مصنوعة من البلاستيك المرن ولها حزام بلاستيكي توضع على الكتف الايمن وتتدلى على الخاصرة اليسرى، وفي الحقيبة بيضة مسلوقة وكسرى خبز ملفوفة بجريدة قديمة وحبة بندورة وبضع رؤوس بصل اخضر مقصوصة الذيول.

ثم احضرت “المطرة” وهي عبارة عن وعاء بلاستيكي للماء شفاف كذلك يعلق بحزام بلاستيكي على الكتف الايسر ويتدلى على الخاصرة اليمنى ، أي خلاف الحقيبة، فيبدو الطفل البالغ من العمر 7 سنوات يرتدي بنطلون الكاكي القصير وقميصا ابيض وكأنه يرتدي بزة عسكرية للحرس الملكي البريطاني.

احتذى صندله البني ثم هم بمغادرة الغرفة الى والده الذي ينتظره في الخارج على حمار العائلة المطيع، فسمع امه المقعدة تنهر شقيقته بأنى لها ان تتركه يخرج دون ان يحتسى كوب الشاي بالنعناع. تمتمت الشقيقة عدم رضاها ثم ابتلعته وحملت كوب الشاي الساخن على عجل نحو الحمار فكان قد انطلق مبتعدا عن البيت براكبيه، الشيخ وابنه.

البيت يقع على حدود التماس بين الحارة الشرقية ومحيط الجامع القديم “عمر بن الخطاب” حاليا في وسط البلد. والمدرسة حاليا هي ابتدائية “الغزالي” اقدم مدرسة في الطيبة، والطريق اليها مرصوف بالحجارة وقد حافظ على عذريته من عجلات المركبات والمسافة في تلك السنوات كانت تقاس بخطوات الحمار لا بالأمتار، والنكبة تكاد تستوي في الفرن.

انه اليوم الاول للدوام المدرسي للطفل محمد، بكر أبيه، الذي جاء بعد شقيقته بأربعة اعوام فخطف منها الدلال والاسم والمكانة، وصار وليا على ولايا البيت من بعد والده حتى وإن كان في سن السابعة. كان يروق لأبيه كما لمعظم الاباء في تلك الازمان ان يشعر بأنه انجب رجلا، ذلك يزيده زهوا برجولته.

الطفل محمد محظوظ جدا فهو يلتحق بالمدرسة خلافا لأترابه. إذ ان التعليم كان ميزة ابناء الذوات، ابناء الاسر الراقية، لا يقدر عليها أبناء الفلاحين الفقراء، وقلما كنت تجد طفلا فلاحا يرتاد المدرسة لأن التعليم يصلح للمقتدرين وليس للراغبين، وابوه الشيخ كان فلاحا ولكنه كان مقتدرا.

الحمار يسير بشيء من العنجهية  مع انه يحمل على متنه راكبين، الشيخ في موضع القائد وابنه خلفه يتشبث بدماية ابيه. وكان الاب حين يمر بجوار احدهم يلقي التحية بصوت مرتفع فينتبه الآخر الى الحمار ومن عليه ليرى من الخلف تقاطع الاحزمة البلاستيكية على ظهر الطفل للمطرة والحقيبة، فيصيح بالشيخ وقد تخطاه بمسافة: ما هذا الذي يرتديه ابنك يا شيخ؟ فيجيب الاب الفخور بصوت اعلى وهو يبتعد بأنه يصطحب ابنه الى المدرسة فهو سيلتحق بالتعليم. هذا بحد ذاته كان يزيد كبرياء الاب كثيرا من الانفة.

وصل الحمار الى باحة المدرسة، ترجل الاب وانزل ابنه، ربط الحمار المطيع بغصن الشجرة العريقة وتوجه نحو غرفة الشيخ المدير، بعد ان ابقى ابنه ينتظر في الساحة مبهورا. فكل الاطفال من حوله يتحدثون بمفردات غريبة وبلهجة أغرب عن لهجته. انها لهجة كان يسمعها فيستغربها ويعتبرها لغة تخص من يرتدي البنطلون المكوي والقميص والابيض ورباط العنق، ولكنه يسمعها هنا من صغار مثله.

التف حوله عدد من الصغار وكانوا يعرفون بعضهم بعضا، فبدا الغريب عن هذه المجموعة وعن المكان علاوة على مفرداته التي ساورته الشكوك بأن احدا لن يفهمه حين ينطق تماما مثلما يجد هو صعوبة في فهم مفردات الصبية من حولة.

مرت بضع دقائق فخرج والده من غرفة الشيخ المدير وامسك بيده وساقه الى باب احدى الغرف التدريسية والقى عليه التعليمات: عندما تسمع الجرس يدق ادخل هنا واجلس في احد المقاعد. وحين تسمع الجرس وينصرف الجميع قف امام المدرسة وانتظرني.. مفهوم؟ قال الوالد هذا وانصرف.

وقف محمد ينظر حوله بحثا عن شيء يشبهه، شيء يفهمه، شيء يذكره بأنه لم يغادر الطيبة، فتبين له عقال الشيخ المدير عبر النافذة، دبت في نفس الطفل الطمأنينة، لأن هذا يشبه عقال وكوفيه والده. وحين انتصب الشيخ المدير من مكانه، تكشفت عبر النافذة دمايته وهي لحسن حظ الصبي بخطوط طويلة كحلية اللون كالتي يرتديها والده في المناسبات. ارتاح الطفل وانفرجت اسارير وجهه بأن هناك ملاذا في تلك الغرفة خلف تلك النافذة حتى وإن لم يكن يعرف اسمه، فهو يشبه والده ولعله يتحدث مثل والده بمفردات يفهمها كما يفهم مفردات والده هنا تذكر انه فاته ان يسأل والده متى يتناول البيضة وحبة البندورة وقطعة خبز الامس والبصل الاخضر مقصوص الذيول !

دق الجرس ودخل الجميع ومعهم محمد الذي لم يكن يعرف ما في داخل تلك الغرفة حتى تلك اللحظة. دخل الغرفة ووقف يبحث عن مكان يجلس فيه، فلم يجد مقعدا شاغرا. وقف عند الصبورة فبدا للآخرين وكأنه عريف الصف، لم يرق لبعض التلاميذ هذا فراحوا يصرخون نحوه بالانصراف من هناك.

ابتعد بعد ان شعر بالارتباك، لا يفهم ماذا يريدون منه ولماذا عليه الابتعاد عن المكان، واين عليه الوقوف حتى يتجنب عدوانية الاولاد من جديد. في هذه اللحظة لاحظ محمد مقعدا شاغرا فتوجه اليه وجلس معتقدا انه بهذا وجد المقعد الافضل لنفسه. بعد لحظات دخلت المعلمة تمسك عصا من الخيزران، وما ان لمحت محمد واين يجلس حتى ثار غضبها جراء وقاحة هذا الطفل الغريب الجالس مكانها. وزاد من غضبها انها ادركت بعد ان سألته عن اسمه انه خارج عن الاجماع في هذا الصف، مختلف تماما.

“انهض من مكاني يا كلب واذهب ابحث لنفسك عن كرسي”، قالتها مزمجرة بينما قهقه بعض الصغار بلا حياء او ادراك. طرقت المعلمة بعصاها الطاولة بقوة فارتجف الاطفال وطلبت السكوت التام فحصلت على مطلبها فورا. صمت الجميع ومحمد لا يزال يقف في حيرة من امره. تقدمت منه المعلمة وبرأس عصاها وخزته نحو الباب قائلة: لا يوجد مقعد لك هنا، اذهب واحضر مقعدا لتجلس.

خرج محمد بتسريحته التي تشبه تسريحة دي كابريو في فيلم “تايتانيك” ووقف امام الغرفة في الشمس الدافئة فجف شعره في دقائق وصارت نسمات ريح الصباح كفيلة بتفكيك خصلات شعره الغزير. نظر محمد من حوله فلم ير في الساحة سوى حمار الشيخ المدير مربوطا بدرابزين جانبي يرعى ازهار الحديقة، فتذكر البيضة وحبة البندورة وقطعة خبز الطابون الملفوفة بجريدة قديمة والبصل الاخضر مقصوص الذيول. جلس على حجر كبير في طرف الساحة، واخرج زاده وراح يتناول فطوره بنهم. كان للبيضة وحبة البندورة مذاقا لم يعهده من قبل، مع انه يتناول البيض المسلوق يوميا. فرغ من الاكل واصبحت الحقيبة البلاستيكية فارغة وخفيفة، شرب جرعة ماء فبان مستوى الماء وقد انخفض قليلا، راقه ذلك فتناول جرعة أخرى فلاحظ ان مستوى الماء في المطرة انخفض ثانية، فقال في نفسه: “لعلها المدرسة تجعلني اكتشف جديدا في كل شيء”.

مرت بضع دقائق ومحمد لم يصبح تلميذا بعد، مع ان والده راح يتفاخر وسط رفاقه بأن ابنه التحق بالتمدن وهو الاهم ثم بالمدرسة. التفت الطفل من حوله في كل الجهات، فلاحظ محلا لبيع الدجاج في الجهة المقابلة من الطريق، وكانت صناديق خشبية خاصة بنقل وحبس الدجاج فيها، فارغة ومكدسة امام الحانوت. لم يفكر كثيرا، قطع الطريق الى هناك وتناول صندوقا من هذه الصناديق وعاد فرحا بأنه وجد مقعدا.

دخل غرفة الصف عائدا يحمل الصندوق بكلتا يديه، حتى دون ان يقرع الباب، لأنه لا يعلم ان عليه قرع الباب قبل الدخول، ثم ان يديه مشغولتان بحمل الصندوق الثقيل. دخل بصندوقه والقاه بقوة امام الجميع، فكان ان تموضع الصندوق بجوار طاولة المعلمة ثم جلس فوقه وهو يتنهد لاعتقاده بأنه عاد ظافرا بعد عناء شديد.

نظرت اليه المعلمة باستغراب ثم نهضت من مقعدها وعادت بضع خطوات الى الخلف اقتربت من النافذة ثم امسكت بأنفها بأصبعين وكأنها ارادات تجنب روائح كريهة، وما هي إلا لحظات حتى فعل الامر ذاته كافة التلاميذ الذين يتابعون ما يجري امامهم. كل منهم امسك بأنفه منعا لتسرب الرائحة الكريهة المنبعثة من صندوق الدجاج الذي جلبه محمد وهو مليء ببراز الدجاج في قعره.

استغرب محمد هذا التصرف ولم يجد له سببا، نظر نحو الجميع والدهشة بادية على وجهه ينتظر ان تتضح الامور له، فكان له ما اراد ودهشته لم تدم طويلا إذ صرخت به المعلمة بأعلى صوتها بأن يحمل صندوقه ويخرج من الصف. لم يفهم ما تريده المعلمة منه نظر حوله باحثا عمن يفسر له ما يجري. صرخت مجددا وكررت ما قالت وختمت عبارتها بتوجه “يا كلب”، عندها ادرك ان لا كلب هنا سواه لأنها كانت نادته قبل ذلك بنفس الطريقة، فحمل صندوقه وخرج والقى به تحت النافذة وجلس فوقه لا يعنيه إن اتسخ بنطلونه الكاكي القصير.

الشمس وقحة تطلق سهامها نحو الطفل المرتبك في اول يوم دراسي في حياته بحرارة تفوق الدفء بدرجات، فدفعته الى سحب المطرة وارتشاف جرعة أخرى من الماء. وهنا لاحظ محمد منسوب الماء في المطرة وقد انخفض الى المنتصف، واليوم الدراسي لم يبدأ بعد، فقرر ان يحضر في الغد معه مزيدا من الماء كي تكفيه.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *