2الأخبار العاجلةالعالم العربي

كيف هزمت الانظمة المستبدة الربيع العربي؟

لعل الوحدة العربية لم تتجلّ قط مثلما سطعت أيام تألق الثورات العربية وتوهجها عام 2011. بدءاً من ثورة تونس التي ألهمت العرب في كل مكان للنزول إلى الشارع، إلى ثورة 25 يناير/كانون الثاني في مصر التي أطاحت بحسني مبارك وعلمت المواطنين العرب وقادتهم على حد سواء أن الاحتجاجات قد تتكلل بالنصر.

25

موجة الاحتجاجات التي تلت شهدت تضافراً عجيباً مميزاً لا يمكن فهمه ولا شرحه من دون الإشارة إلى تداخل الشعوب العربية ببعضها وانتشار الأفكار عبر حدود أقطارها. فالبحرينيون واليمنيون والأردنيون جميعهم حاولوا تقليد عملية انتزاع السلطة بالتخييم في ساحة عامة لفترة طويلة وذلك اقتداءً وأسوة بنجاح مصر في ميدان التحرير؛ كما ردد المحتجون والمتظاهرون العرب في كل أرجاء الوطن العربي نفس الهتافات والشعارات بل ورفعوا الرموز ذاتها أيضاً.

لكن ما الذي حدث في الأشهر والسنوات التي تلت أيام الحَمِيّة والنشوة العارمة تلك؟ هل حدثت عمليات مثل انتشار الأفكار وتعلم الشعوب من تجارب بعضها البعض فتشكلت أمامنا سمات عهد ما بعد الثورات؟ أم هل تعلمت الأنظمة الاستبدادية من بعضها البعض درساً مثلما تعلم المتظاهرون من بعضهم؟

ورشة عمل
حسب صحيفة الواشنطن بوست الأميركية اجتمع أكثر من 12 خبيراً في شهر يونيو/حزيران من هذا العام في مدينة هامبورغ الألمانية لحضور ورشة عمل شارك في تنظيمها “مشروع العلوم السياسية في الشرق الأوسط” بالتعاون مع المعهد الألماني للدراسات العالمية والإقليمية، حيث تناولت ورشة العمل عن قربٍ كلاً من عمليات التعلم وانتشار الأفكار العابر للحدود والمظاهرات التي عمّت بلدان الأنظمة الاستبدادية أثناء الثورات العربية المضادة. كما ركزت أبحاث ورشة العمل والمتوافرة هنا بصيغة PDF على الطرق التي نجح – أو أخفق – فيها قادة الدول العربية بالتعلم من بعضهم البعض.

بالطبع استمرت آثار الانتشار والمظاهرات على مستوى المجتمع، بيد أنها اتخذت أشكالاً تختلف عن سابق عهدها أيام ذروة الحماسة الثورية. فـ”النهضة” التونسية سلمت السلطة في أغسطس/آب 2013 بعد وقت قصير من إطاحة العسكر بإخوان مصر. أما وقوع سوريا في مستنقع حرب “أهلية” مروعة فكان بمثابة سيناريو تحذيري لكن من تسوّل له نفسه من بعدها أن يسير على درب تحدي السلطة في عموم المنطقة، ما أتى على آمال المحتجين وخوّفهم من المضي في التظاهرات. أخبار سوريا وصور حربها ألهمت أعداداً من الأشخاص كي يجودوا بما حوته محفظتهم أو يغادروا منازلهم وبيوتهم للانضمام إلى الجهاد، لكن مع مرور الزمن وتلاحق الصور المروعة الواحدة تلو الأخرى بدأ هؤلاء وكل من تراوده الأفكار الثورية يحجمون عن الاحتجاج ومخاطره.

ماذا فعلت الأنظمة الاستبدادية؟
لكن ماذا جرى على صعيد الأنظمة؟ لاحظت ماريا جوسوا أن الأنظمة الاستبدادية تبنت عدداً من سياسات الاستجابة لتلك التظاهرات الشعبية تشابهت مع بعضها إلى حد كبير، مثل عدم إتاحة الساحات العامة في متناول المتظاهرين واعتماد روايات إخبارية تخلو من الجانب الإنساني، كما لجأت إلى تعبئة وتأجيج المشاعر الوطنية المعادية للأجانب. فجأة وجد المتظاهرون في كل المنطقة أنفسهم قد وصموا بنفس الألفاظ: بأنهم عناصر تحريضية مدعومة من الخارج، أو مندسون أجانب يهيّجون الشارع ويؤججونه، أو مجرمون مدمنون للمخدرات.

لكن تلك التشابهات بحد ذاتها ليست دليلاً ولا إثباتاً على حدوث عملية انتشار فكري أو تعلم. فكما يقول الخبيران الألمانيان توماس ريختر وآندريه بانك ويؤكدان أن ليس كل ما يبدو انتشاراً قد يكون بالضرورة كذلك، فهناك العديد من سياسات الاستجابة للثورات لم تكن سوى مجرد استراتيجيات واضحة بديهية متوافرة أمام أي لاعب سياسي يتمتع بقدر معقول من أهلية المنافسة، ولم تكن هذه أبداً إبداعات أو أفانين تحتاج للتعلم قبل أن تطبقها الأنظمة. فالأنظمة الاستبدادية لم تكن قطعاً بحاجة لمن يعلمها كيف تعذب وتسجن شعوبها وتسقط الجنسية عن المنشقين وتفرض الرقابة على شبكات التواصل الاجتماعي و”تطهر” الشوارع من الاحتجاجات وتفرض الرقابة على الإعلام.

حملات قمعية وقائية
حتى أن هنالك حالاتٍ ظاهرُها قد يشي بأنها حالات تعلمٍ من تجارب الآخرين، إلا أن الواقع مغاير تماماً للظاهر. فالجيش التركي لم يكن أبداً بحاجة للتعلم من المثال المصري كي تختمر فكرة انقلاب عسكري في ذهنه، فتركيا على العكس تماماً تاريخها زاخرٌ بالانقلابات العسكرية الناجحة التي شكلتها على مدى العقود وأثرت فيها تأثيراً أقوى بكثير من تأثير الانقلاب المصري الذي شُجِب بشدة وقوة عبر كافة أطياف السياسة التركية على مدى 3 سنوات. لكن على الرغم من أن الانقلابات العسكرية قد لا تشعل فتيل ثورات مقلدة في أماكن أخرى إلا أنها حسب رأي جوناثان باول وكورتيس بيل كثيراً ما تولّد حملات قمعية وقائية من طرف أولئك القادة الذين يستشعرون تهديداً لسلطتهم.

في تونس جاء قرار “النهضة” بالتخلي عن السلطة في صيف 2013 استجابة واضحة لانقلاب مصر في أعين الكثير من المراقبين، لكن مونيكا ماركس اجتهدت في توثيق أن القرار كان نابعاً من ديناميات الحزب الداخلية وتقلبات الرياح التونسية المحلية. وبالمختصر فإن الكثير من المخرجات التي تبدو متشابهة ظاهرياً ما هي في واقع الأمر سوى استجابات متشابهة لقضية مشابهة، فلترتها تفاصيل الأوضاع المحلية، لتخلق فرصاً خطرة تفرط بتنبؤ الانتشار.

المساهمون في “مشروع العلوم السياسية في الشرق الأوسط” ودراسته 21 للانتشار والتعاون عبر حدود بلدان الشرق الأوسط، جميعهم يذهبون في دراساتهم وأبحاثهم إلى ما هو أبعد مما وصلته الأبحاث السابقة في إظهار حجم التعلم والانتشار الذي تحقق وتم بين الأنظمة العربية في الأعوام التي تلت الثورات، فهو أمرٌ يستدعي كثيراً من الانتباه إلى عوامل التوقيت والتسلسل، كما يستدعي أيضاً مراقبة آليات انتقال الأفكار سواء بشكل غير فاعل عبر تفرج اللاعبين على الأحداث في الإعلام، أو بشكل فاعل عندما يقوم اللاعبون والأطراف بجهود مباشرة لنشر تلك الأفكار.

استراتيجيات البقاء على قيد الحياة
بالرغم من صعوبة جمع الأدلة المباشرة على وجود تفاعل وتعاون فكري تم في الخفاء بين الأنظمة الاستبدادية إلا أن هؤلاء الخبراء تتبعوا بكل دقة وتؤدة كلاً من توقيت وتسلسل تلك الأحداث والعمليات بغية إظهار الأماكن التي يتجلى فيها التعلم والانتشار. دراستهم ومراقبتهم هذه للأوضاع المحلية عن كثب وتفحصهم للآليات المحددة التي تمت بها عملية الانتشار – جميعها أدخلت على أجندة البحث جرعة مفيدة من الشك والتشكك، لكنها لا تقودنا إلى الاستنتاج أن الانتشار لم يحدث. حالياً العالم العربي واقع في مهب قوى تنحته وتشكله وتعزز التفاعل العابر لحدود بلدانه: من الشبكات الاجتماعية واسعة الانتشار إلى القنوات الفضائية وحتى الحكومات المنخورة وتدفق اللاجئين وعمليات التدخل العسكرية عبر الحدود.

قد يكون تعلم الأنظمة الاستبدادية من بعضها قد تم بشكل غير مباشر أو جزئي؛ حيث تهرع الأنظمة من يأسها وشدة ضائقتها إلى تجربة كافة الاستراتيجيات والأساليب المتنوعة سواء تلك التي كانت ناجعة معها فيما مضى أو تلك التي أثبتت مؤخراً فاعليتها حينما استخدمها أصدقاؤهم في ظروفهم المماثلة.

ستيفن هايديمان دأب طيلة سنوات على دراسة العمليات التي تتطور بها الأنظمة الاستبدادية وتتعاون فيما بينها، ويصف هايديمان تناغماً بيئياً سياسياً مميزاً تتعلم فيه الأنظمة استراتيجيات البقاء على قيد الحياة. كذلك يمضي رينو ليندرز أبعد من ذلك في وصفه الأخاذ لـ”تشكل توليفة المشهد الثوري المضاد” الذي تعمل في ضوئه الأنظمة المهددة “على مواصلة اتصالاتها الدولية كي تتضافر معاً وتتعاون في بناء سياسات واستراتيجيات وتكتيكات مضادة للثورات مستمدة من عدة خبرات سابقة أو عملاً بوسائل مجربة في الإدارة والحكم، حيث يعمد قادة الأنظمة هؤلاء إلى إعادة تجميع تلك العناصر وتعديلها كي تصبح صالحة للاستخدام المحلي سعياً منهم لإيجاد تدابير فاعلة في مواجهة التحديات المحدِقة بأنظمة حكمهم”.

مراقبة المنشقين
مثلاً قد تكون مراقبة المنشقين أحد الممارسات الأساسية المعمول بها في تلك الأنظمة، غير أنه يتبقى للأنظمة أن تتعلم كيفيات وأساليب محددة في اختراق الشبكات الاجتماعية واستغلالها. فالقادة الذين راقبوا تباين ردود الأفعال الدولية الباكرة إزاء قمع احتجاجات مصر والبحرين وليبيا قد يتعلمون دروساً في حجم ونوعية العنف التي قد يُعمِلونها ويستخدمونها دون مخافة من أحد. عملية التعلم هذه هي غير مباشرة، كما أنها مرّت عبر مصفاة التجارب المحلية لتتلاءم مع ظروف خاصة، بيد أنها أيضاً تُظهِر وبكل وضوح عوامل التأثير بين الأمم والدول على بعضها البعض.

لكن شون يوم في المقابل رأى عملية فاعلة أكثر اتحد فيها ملوك العرب سوية بطرق جديدة بهدف الدفاع المشترك عن النفس. ففي بحثه قال يوم إن انتشار أدوات السياسة مع الدعم المادي والمساعدة التقنية كان مباشراً ومقصوداً. وبالمثل رصد كلٌّ من كيفن كوهلر وروث سانتيني انتشاراً مقصوداً عن عمد عبر مراقبة التعاون الأمني عن كثب بين أنظمة تلك البلدان الاستبدادية وتشاركها للممارسات العسكرية والسياسية الإدارية. من هذه التأثيرات إبرامُ التحالفات الدولية حسبما رأى ليندرز وشلومبيرغر. فالولايات المتحدة الأميركية حينما أبدت استعدادها لبيع السلاح وحتى دعم أكثر حلفائها استبداداً في القمع، من البحرين وحتى مصر، هي بذلك تتحدى النظريات السائدة القائلة بأن الحلفاء الديمقراطيين يكون لهم تأثير مهدئ يضبط غـُلوّ الأنظمة الاستبدادية ، كما أن موقف أميركا الداعم للاستبداد يشق الطريق لقناة بديلة تتسرب فيها تلك الممارسات الاستبدادية إلى أنظمة الحلفاء أنفسهم.

أساليب قمعية أقوى
لقد تكشفت على المستوى الإقليمي عدة أمور منها نشوء “نادي للممالك”، وتبني ممارسات متشابهة من رقابة وقمع، وانتشار أساليب جديدة وفريدة من الطائفية وغيرها كثير. لقد أصاب الضعف والوهن معظم دول المنطقة على مر السنوات الـ5 الأخيرة، حيث لجأت إلى أساليب قمعية أقوى وأشرس مع شعوبها منبعها الإحساس بالتهديد وتكاثر التدخلات العسكرية والسياسية السافرة في الخارج. من الآن فصاعداً ستزداد القوى والتأثيرات بين البلدان قوة وشدة وستنمو من مجرد هويات طائفية عابرة لحدود الدول حتى تنتشر أخطبوطياً مع امتداد وانتشار وتشعب الشبكات الاجتماعية التي تتخطى كل الحدود. لعل التعلم والانتشار العابر لحدود الدول سيغدوان السمة الرئيسية في سياسات الشرق الأوسط.

لقد أسهمت الأبحاث المشاركة في “مشروع العلوم السياسية في الشرق الأوسط” ودراسة 21 أيما إسهام في تعزيز وإثراء فهمنا لعمليات الانتشار والتعلم هذه في السياسات الإقليمية. قوموا بتحميلها الآن.

المصدر: وكالة نبا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *