عام مضى وعام قادم – بقلم: احمد عرار

يرتبط التاريخ بعلاقة وثيقة بالوعي الإنساني على اعتبار انه الوعاء الذي يستوعب النشاط الإنساني بمختلف أنواعه، وعلى مختلف الأصعدة ثقافيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، وعليه فان التحول والتغير في حياة الشعوب لا يمكن أن يبدو للعيان ما لم يظهر وعي جديد بالتاريخ وهذا الأمر لن يكون بمعزل عن النقد الموضوعي لمجمل الأوضاع والغور في دراسة أدق تفصيلات العلاقات القائمة.

إن عملية الوعي هذه هي ما تجعلنا ندفن العام الماضي ونحن مجهزين نفسيا وعقليا وذهنيا لفهم ما جرى ويجري ضمن وعي تاريخي يفهم جدلية العلاقة بين المستقبل وبين الماضي. لقد ازداد وتنامى الاهتمام في السنوات الأخيرة بالدراسات المستقبلية التي أصبحت تكتسب كل يوم موقعا جديدا وتؤسس لنفسها مركزا هنا ومركزا هناك، وقد أصبحت مختلف المؤسسات العالمية تستشرف مستقبلها وتخطط له.

إن قراءة العام القادم وتوقعات مآلاته لا يمكن أن تتم إلا بفهم ما حدث في العام الماضي الذي كان مليئاً بالأحداث على المستوى العربي. بدء من تونس ومرورا بمصر و وصولا بسوريا التي لازالت رائحة القتل والدمار تحجب عن أهلها أمطار الشتاء.

في مصر وتونس المشهد أكثر وضوحاً الآن فقد ظفر الإخوان المسلمين في كلتا البلدين بالسلطة بعد انخراطهم متأخرا بالثورة، التي اختلف المفكرين والسياسيين على براءتها، لكن رغم كل ذلك كان للشعبين العربيين فرصة حقيقية بان يختاروا هم من يحكمهم وكان لديهم فرصة لأول مرة بانتخابات نزيهة إلى حد ما. وفرصة لقول كلمة لا ولضرب الرئيس بالحذاء الذي لطالما رفعوه صامتين رفضا للقهر والمهانة التي عاشوها.

هذه الانتخابات أفرزت لونا سياسيا لا يمتلك تجارب كثيرة ، إضافة إلى اختفائه وراء خطاب سماوي وميتافيزيقي، وشعارات تتعلق بالهوية والصدق، سهلت على المواطنين الذين لا خبرة لديهم في المشاركة السياسية الاختيار، فاختاروا جماعة الإخوان التي مارست بعض التزييف بالنتائج مع دعم أمريكي كامل لتصبح هي الممسكة بزمام السلطة في البلدين. ونتيجة لذلك أصبح أمام هذا اللون السياسي جملة من المعضلات.

أولى هذه المعضلات (علاقتهم بالمجتمع) الذي لا ينتمون إليه على مستوى الهوية وعلى المستوى الثقافي والاجتماعي فشعب مصر وتونس شعوب علمانية إلى حد كبير ولا تؤطر الدين في مؤسسات رسمية، بل تمارس حياتها بعيدا عن ثقافة التفكير الديني لدى هذه الجماعات وهذا ملحوظ في السينما والتلفزيون وسائر الفنون والآداب التي ينتجها الشعبين. والتي لا يمكن تغييرها بكبسة زر أو بقرار حكومي فهي جزء من تراثه وثقافته. وهذا ما دفع راشد الغنوشي رئيس الجماعة بتونس إلى أن يختفي وراء كلمة “التدافع” والتي تعني التغيير عبر الهوية والتراكم بعيدا عن القرارات التي قد تسبب انقلاب عليهم. خاصة إذا ما تضمنت هذه القرارات مساسا بمصالح كبيرة كالسياحة مثلاً.

المعضلة الثانية وهي (صدمة الشرائح التي تمثلها الجماعة)، والتي كانت تتغذى فكريا على مناهج وأفكار بعيدة كل البعد عن واقعية السياسة، حيث كانت هذه الشرائح تتوقع أن تقيم جماعة الإخوان “الخلافة الإسلامية” وان تقوم بفرض رؤى دينية متطرفة مع بعض الاختلافات في منظومة التفكير لدى هذه الشرائح، التي أصبحت ترى بان الإخوان المسلمين لا تفعل ما كانت تتحدث عنه قبل استلامها الحكم مما حدا بالعديد من قياداتها شبابا وشيوخ بالاستقالة والابتعاد عن مسرح العمل السياسي.

المعضلة الثالثة التي تواجه جماعة الإخوان المسلمين والأكثر أهمية هي (قدرتهم على التغيير الحقيقي) وتحقيق مطالب الثورة المتمثلة بالعدالة الاجتماعية والكرامة وتحسين واقع الحياة البائس، وتوفير متطلبات حياة كريمة وإطلاق الحريات واحترام حقوق الإنسان وتوفير الأمن للمواطن. والتي لم يتغير فيها شيء حتى الآن، بل أن واقعا أكثر سوء أصبح واضحا للعيان ففي مصر هناك غلاء معيشة مرتفع وأسعار جنونية خلال هذا العام إضافة إلى عدم توفر السلع الأساسية كالوقود وغاز الطهي، الذي شكل أزمة خلال الشهور الماضية. أما عن الحريات وحقوق الإنسان فمن الواضح بان جماعة الإخوان لم تنجح في إدارة اختلافاتها مع الآخرين بطرق سلمية وقد عكست أزمة الدستور حقيقة هذا التعامل حيث كان هناك القتلى والجرحى كما استخدمت الإخوان البلطجية التابعة لها في مساوقة كبيرة لأسلوب الحكومة السابقة. أما عن الأمن فقد أصبح المواطن المصري لا يأمن على نفسه ولا على أهله أو ماله، فجرائم الخطف والسرقة تزداد بشكل كبير في ظل عجز الحكومة عن توفير الأمن وانشغالها بصراعها مع الخصوم السياسية.

المعضلة الرابعة أمام الحكومة الإخوانية (العلاقات الدولية) وتعتبر هذه المعضلة أساسية وبالغة الأهمية وتعتبر مصر أكثر حرصا من تونس على توضيح نقاط عديدة ورسم خطوط واضحة لها، وذلك بسبب موقعها الجغرافي وبسبب علاقتها مع إسرائيل حيث ازدادت في الآونة الأخيرة المطالبة بإنهاء معاهدة السلام، خاصة مع العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة والتي تشكل الأخيرة هاجسا كبيرا أمام الأمن القومي المصري. هذه العلاقة لم تتغير بل أصبح واضحا بان مصر اليوم لها دور الشرطي والمصلح بين الطرفين، هذا الدور الذي شكرته أمريكا وإسرائيل بعد اتفاق التهدئة الذي أبرمته مصر مع حركة حماس.

هذه جزء من الواقع الذي يحتاج إلى قراءة وربط ليمكننا من صناعة رؤية استشرافية للعام القادم.

هناك بعض التوقعات الأخرى في “الأردن” مثلا والتي من المحتمل أن يحدث بها انقلاب خلال العام القادم خاصة في ظل ارتفاع نسب البطالة والقمع، إضافة إلى مخططات إسرائيل بضم جزء من أراضي الضفة الغربية إلى المملكة أي بحوالي نحو 2.4 مليون فلسطيني من سكان الضفة الغربية ، هذا المخطط سيصبح من السهل تطبيقه في حال ظفرت جماعة الإخوان المسلمين بالسلطة في الأردن، حيث تشكل الجماعة هناك تيارا قويا على مستوى التنظيم وتمتلك موارد مالية كبيرة قادرة على جز نفسها في معركة انتخابية ضمن قدرتها أيضا على استخدام خطاب مشابه للخطاب الذي استخدمته الإخوان بمصر وتونس. ويأتي هذا المخطط وهذا السيناريو في ظل سعي إسرائيل لإسقاط السلطة الفلسطينية وإضعاف موقف الرئيس محمود عباس بالضفة.

أما عن “سوريا” فلا تزال الغيوم كثيرة ولا يزال المصير مجهولاً، فقد أخفقت جبهة المعارضة التي تأسست في الخارج كحكومة بديلة ، كما أخفقت التحالفات الداخلية كجبهة واحدة، أيضا لم تشكل الدول الكبرى موقفا واضحاً في ظل اختلاف المواقف والمصالح بين روسيا وامريكا وتدخلات الصين وغيرها. أما بالنسبة للوضع على الأرض السورية فهو الأكثر دموية منذ الحرب العالمية الثانية فأعداد القتلى تجاوزت مئات الآلاف ووصل عدد الجرحى إلى أكثر من مليون شخص إضافة إلى النازحين على حدود تركيا والدول الأخرى. هذا الواقع الأليم قد يستمر لشهور أخرى لكنه وحسب قراءة ميدانية لواقع الجيش السوري وسيطرة الجيش الحر على مناطق أخرى لا يمكن أن يمضي هذا العام والوضع على ما هو عليه فسقوط النظام أصبح قريبا جداً ربما خلال أربعة أو ستة شهور على الأكثر من العام القادم سيكون تغيير كبير وسيسقط النظام بعد جريمة كبيرة قد يقترفها باستخدامه للأسلحة الكيماوية. سقوط النظام السوري سيغير كثيرا في المشهد العربي وليس من اليسير فهم مآلات هذا التغير وليس من المتوقع أن تظفر جماعة الإخوان المسلمين بزمام السلطة في سوريا.

خاتمة:

في السطور السابقة حاولنا رسم الواقع العربي من خلال الأحداث الماضية والجارية وتوقعات ربما تحدث قريبا. ولم يبقى إلا أن نتحدث عن توقعاتنا للمستقبل في ظل هذه المعطيات. إن العديد من هذه المعطيات تشير إلى أن واقع النظام العربي غير مستقر وانه من السهل جدا أن تسقط الحكومات المنتخبة حديثا لعدم قدرتها على تلبية متطلبات الثورة. وهذا يعني بان هناك صراعا كبيرا قادما بين الشعوب وحكوماتها سيكون وحسب المشاهدات اليومية أكثر عنفا ودموية، وسوف تزداد الصراعات الطائفية خاصة في ظل سعي الولايات المتحدة لدعم تيارات متضاربة داخل الوطن العربي. من المرجح أيضا أن تنعكس هذه المعطيات على القضية الفلسطينية سلباً حيث تكون الفرصة مواتية لفصل غزة عن الضفة بالكامل عبر جز غزة إلى مصر اقتصاديا وامنيا وجز الضفة الغربية إلى الأردن وهذا من المحتمل حدوثه ولكن ليس خلال العام القادم.

بقي أن نقول بان ما كنا نحلم به عقب الربيع العربي من غسل الماضي الملوث والأموال الملوثة والضمير الفاسد وتطهير الذاكرة والبيئة من الاستبداد والقهر بات قريبا جداً وممكنا لكنه بحاجة إلى عمل وتكاثف حقيق لكل فئات الشعوب العربية من أجل التغيير ولن يكون ذلك إلا بدفع فاتورة كبيرة من الدماء التي سيخلفها الصراع العربي القادم.

Exit mobile version