في ذكرى مرور 42 عاما على رحيل عبد الناصر

بقلم: د. حسن عبد الله – لم يشهد التاريخ العربي المعاصر زعيما بحجم وثقل جمال عبد الناصر، الذي طرح مشروعا عربيا قوميا وحدويا، التفت حوله الجماهير العربية من المحيط الى الخليج. ورغم محاولات الغاء وتهيش هذا التاريخ المشرف، الا ان عبد الناصر ظل حاضراً بقوة، في ضمائر الاجيال التي عاصرته وتغذت قوميا ووجدانياً من طروحاته وأفكاره ليعود هذا الفكر ويتبوأ موقعا متقدما ومرموقاً من جديد، في عقل ووجدان الجيل الشاب، الذي قرأ عن عبد الناصر، وتعرف على افكاره، بعد الذي اعترى الساحة العربية في السنوات الاخيرة من تشتت وتمزق وانحراف في اتجاه وضياع بوصلة.

عبد الناصر له مكانة خاصة في عقول وقلوب الفلسطينيين، الذين انتصر لقضيتهم منذ ان حارب في الفالوجة عندما كان ضابطا مسكونا بفلسطين القضية، ليرحل بشكل مفاجئ حينما كان الفلسطينيون بأمس الحاجة الى دوره وثقله ليس على المستوى العربي فحسب، وانما على المستوى الأممي.

كان الفلسطينيون في قراهم يتحلقون حول أجهزة الراديو التي تعمل بالبطارية، يلتقطون كل كلمة من خطاباته الشهيرة، لأنهم وطنيون وقوميون بطبيعتهم، لا يتصورون فلسطين بمنأى عن عروبتهم، التي طالما شكلت بالنسبة اليهم البعد الثقافي والمعرفي والاخلاقي والوجداني. وعندما اثقلته الهموم والمهمات والتحديات وتوقف قلبه عن العمل، بكاه الفلسطينيون بمرارة شديدة، بعد أن شعروا باليُتم، لأن عبد الناصر لم يفرق يوما بين قضايا المصريين وقضايا العرب على اختلاف دولهم وافكارهم. حيث كانت مصر بلاد أي عربي، يأتي اليها طالباً العون النضالي والسياسي أو من أجل العلم في جامعاتها ومعاهدها التي فتحت ابوابها للفلسطينيين على وجه الخصوص، لتصبح الجامعة المصرية هي جامعة الفلسطينيين، الذين كانوا في تلك الفترة نتيجة الظروف المأساوية التي عاشوها بلا جامعات أو مؤسسات تعليمية عليا.

لقد وظف عبد الناصر الفن والثقافة في خدمة القضية الفلسطينية، وشجع الفنانين على تخصيص نتاجات وابداعات قيمة للقضية الفلسطينية، ولا يوجد فنان مصري متمكّن لم يغنّ لفلسطين، وما زلنا نطرب ونتفاعل حتى اليوم مع الاغاني الوطنية الخالدة، لـ (عبد الحليم وعبد الوهاب وام كلثوم..وغيرهم)، اضافة الى الأفلام والمسرحيات التي تناولت القضية الفلسطينية وتفاعلت معها.

واليوم وفي ذكرى رحيله، نستذكر مواقف كثيرة لهذا القائد، الذي وقف شجاعا امينا بعد هزيمة العام 67، وأعلن انه يتحمل المسؤولية كاملة عما جرى، ولم يبحث عن شماعة ليعلق عليها النتيجة مضحيا بهذا القائد او ذاك.

تنحى في خطابه الشهير، فخرجت الجماهير الى الشوارع، لم يبق مصري في بيته، وراحت الحناجر تهتف لقائدها وتطالب بعودته عن قراره، في تجربة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها من قبل. فعبد الناصر بايعته مصر والعرب جميعاً بعد هزيمة مزلزلة، وهل يوجد دلالة اعمق من هذا.

لقد حقق تنمية وبنى السد العالي وأسس لصناعة متطورة وأعاد بناء القدرات العسكرية في اقل من ثلاث سنوات، وما كان للرئيس السادات ان يحارب في العام 73، بمعزل عن ما بناه واسسه عبد الناصر.

كان الأزهر في فترة هذا الزعيم الاستثنائي في أوج عطائه وعظمته، جنباً الى جنب مع المسرح والسينما والنهضة التعليمية، في اطار تعددية ثقافية تحت سقف الوطن. واذا كانت التعددية السياسية اعتراها سلبيات في الخمسينيات والستينيات، فلأن التجربة لم تأخذ فرصتها في ظل الحروب مع اسرائيل والاستهداف الغربي لمصر، ورغم ذلك فإنه من الظلم محاكمة التجربة الناصرية الآن بالمقاييس الديمقراطية والتعددية للعام 2012.

كانت سوريا بالنسبة الى عبد الناصر هي مصر، والاردن هي مصر ايضاً، وكانت مصر هي الجزائر والمغرب والسودان وتونس، ولن يفكر اطلاقاً بعقلية حلقية مغلقة. فالانسان العربي هو ابن لأي بلد عربي آخر في المنظور الناصري. فلا درجات ولا مستويات ولا تصنيفات، بل على العكس من ذلك، فإن المصريين دفعوا وقدموا تضحيات واستحقاقات كثيرة في دعمهم للقضايا العربية، على حساب رفاهيتهم وربما رغيف خبزهم.

ان في تجربة عبد الناصر مادة غنية لمن يريد ان يتعلم ويستخلص العبر، لاسيما وأن هذه التجربة مازجت بإبداع بين الوطني والقومي والأممي. وما تجربة دول عدم الانحياز سوى احدى التجليات العبقرية لبعد نظر واتساع افق هذا القائد، الذي عرف متى يكرس جهده للوطني والقومي، ومتى يرفع من شأن الدولي، انطلاقاً من علاقة جدلية ناضجة بين المستويات الثلاثة ( الوطني – القومي – الأممي).

فكر عبد الناصر بعد اثنين واربعين عاما على رحيله، يتجدد، مؤكدا ان لا حياة كريمة للعرب بلا وحدة ودون اقتصاد مشترك أو ثقافة وفكر. فكفى الامساك بذيل التاريخ وحان وقت الزحف التدريجي نحو المقدمة.

Exit mobile version