اغتيال عرفات: اتهامات داخلية وتحقيقات مفقودة

بقلم: عبد الله التركماني (غزة) – أظهرت التراشقات الإعلامية والتصريحات الهجومية المتبادلة بين تياري المفصول من حركة فتح محمد دحلان، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، حول ملابسات وفاة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، أن ثمة معركة دائرة بين التيارين الفتحاويين يتم خلالها استغلال هذا الملف لخدمة أغراض شخصية على حساب التيار الآخر، في ظل حالة من عدم الاكتراث بتشكيل لجنة تحقيق داخلية جادة، أو حتى السعي الجاد لإجراء تحقيقات دولية مستقلة، الأمر الذي يؤكد وجود تواطؤ ممنهج في هذا الملف.

وعرض تحقيق بثته قناة الجزيرة مؤخراً، أدلة جديدة بشأن العثور على مستويات عالية من مادة “البولونيوم” المشع والسام في مقتنيات شخصية لعرفات استعملها قبل فترة وجيزة من وفاته، وذلك بعد فحوصات علمية دقيقة.

ويضع تحقيق قناة الجزيرة القطرية قيادة السلطة الفلسطينية في موقف مخجل ومربك، بعد توصلها إلى نتائج مهمة في سير لجنة التحقيق المشكلة في وفاة الرئيس الراحل، دون أن تتمكن هذه اللجنة نفسها للوصول إلى هذه النتيجة، الأمر الذي أثار شكوكاً في مدى جديتها في كشف هوية الجاني، وأظهرت تقاعسها لثماني سنوات عن حمل هذا الملف وطرحه في المحافل الدولية.

اتهامات

وكان قادة في حركة فتح محسوبون على تيار دحلان، منهم المفصولون: محمد رشيد، سمير المشهراوي، ودحلان نفسه، اتهموا قادة السلطة الفلسطينية ولجنة التحقيق في ملف وفاة الرئيس الراحل عرفات، بـ”التقصير الشديد وطي ملف اغتيال عرفات”، رغم أن التاريخ يؤكد أن دحلان ورفقاءه أنفسهم لم يكونوا على علاقة جيدة بعرفات، بل كانت تدور بينهم خلافات حادة.

ومن اللافت أيضاً أن السلطة الفلسطينية لم تطلب مطلقاً إجراء تحقيق دولي محايد ومستقل حول ملابسات وفاة عرفات، مثلما طالبت الحكومة اللبنانية بتحقيق مماثل في عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري.

كما أن رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية فاروق القدومي، كان قد فجّر قنبلة هزت الساحة الفلسطينية بأسرها عندما اتهم عباس ودحلان الذي كان يشغل وزير الأمن الفلسطيني سابقاً، بالتورط في مؤامرة الاغتيال هذه، مشيراً إلى أنه وثق تفاصيل هذه المؤامرة، الأمر الذي دفع بالرئاسة الفلسطينية إلى إصدار بيان ينفي هذه المزاعم ويتهم القدومي بالكذب، ويهدد بمعاقبته أمام محكمة حركية.

ورغم أن هذه الوثائق التي تحدث عنها القدومي لم تظهر بعد، إلا أنه كان من الواضح أن عباس ودحلان لم يكونا على علاقة ودية مع الرئيس الراحل عرفات، بل وقفا في الخندق المقابل له في أيامه الأخيرة، وجاهرا بخلافهما معه بل وشككا في سياساته.

أسرار اللحظات الأخيرة

وفي المقابل، قالت مصادر مقربة من وزير الصحة الأردني السابق الراحل، أشرف الكردي، إن الأخير كان ينوي الكشف عن مسودة كتاب عن اللحظات الأخيرة للرئيس الفلسطيني الراحل عرفات في مقر المقاطعة في مدينة رام الله، قبل نقله إلى باريس لتلقي العلاج، وسط ترجيحات شبه رسمية وشعبية أن عرفات قتل مسموماً على يد مقربين منه، لم يخضعوا خلال لقاءاتهم مع عرفات لإجراءات أمنية مشددة كانت تتخذ عادة مع ضيوفه.

وبحسب مسودة كتاب الكردي التي نشرت في وسائل الإعلام، فإن عرفات أسر له بأن هذه الشخصيات تمكنوا منه هذه المرة، وأنه يعيش آخر أيامه، وعندما حاول الكردي الاستفسار عما يقوله عرفات قال له الأخير: “إن فضيح ورفاقه قد خانوه وغدروا به، وعندما استفسر الكردي عمن يكون فضيح، أجاب عرفات أنهما محمد دحلان ومحمد رشيد”.

وكان لسفر دحلان إلى بريطانيا للدراسة قبل مقتل عرفات بأشهر قليلة، موضع شك في دور قام به الأول للتحضير لعملية اغتيال الرئيس الفلسطيني الراحل، وهو الأمر الذي شكل اتهاماً من قادة فتحاويين ضد دحلان.

كما تناقلت العديد من المواقع والصحف وثيقة خطيرة تكشف عن خيوط في مقتل عرفات، وتضمنت الوثيقة رسالة من دحلان إلى وزير جيش الاحتلال شاؤول موفاز يعرض فيها واقع الفلسطينيين الذين تسيطر عليهم المافيا التي تنشر الفوضى، متعهداً بأن يجري استئصال من لا يقبل التعايش مع إسرائيل.

وجاء في الوثيقة: “تأكدوا أيضا أن السيد عرفات أصبح يعد أيامه الأخيرة، ولكن دعونا ننهيها على طريقتنا وليس على طريقتكم”، وكذلك أوضحت الوثيقة أن دحلان أكد لموفاز أنه بدأ باستقطاب الكثير من أعضاء المجلس التشريعي من خلال الترغيب والترهيب حتى يكونوا بجانبنا وليس بجانبه (عرفات).

أغراض شخصية

وأمام هذه الحالة العدائية التي يكنها تيارا دحلان وعباس لبعضهما، يثار سؤال هام “كيف تم توظيف نتائج تحقيقات الجزيرة؟”.

يؤكد عضو المجلس الثوري في حركة فتح يحيى رباح، أن قضية عرفات التي تعد من قضايا الاغتيالات التاريخية الكبرى، استخدمت في خدمة أغراض سياسية شخصية ضيقة لصالح بعض الشخصيات في الساحة الفلسطينية.

وقال رباح: “قضية اغتيال عرفات هي من قضايا الاغتيالات التاريخية الكبرى، ومن المعيب والممنوع أن تصغر هذه القضية لصالح خدمة بعض الأجندة السياسية الخاصة والصغيرة، وأن تكون أداة في السجالات الداخلية”.

وأوضح أن هذه القضية استخدمها أشخاص ضد أشخاص في حركة فتح، من أجل توسيع حجم الأزمة الداخلية التي تشهدها الساحة الفلسطينية على مستويات عديدة، بدءًا بالانقسام الداخلي، ومروراً بالخلافات الحزبية الداخلية، وليس انتهاءً بمواجهة التحديات الإسرائيلية ضد الأراضي الفلسطينية.

ونبه إلى أن هذه الشخصيات استخدمت هذه القضية لإثارة الفتنة في الساحة الداخلية وإرباكها، ولتفجير المواقف التي تعيد خلط الأوراق من جديد، أو حتى إعادة الحضور إلى الشارع الفلسطيني بعد فصلهم من حركة فتح، “ولكن كل هذه الأهداف لا تصل إلى مستوى هذه القضية الكبيرة”.

وأضاف عضو المجلس الثوري: “من المعروف أن الوضع الداخلي الفلسطيني مأزوم جداً، ولا يجوز لأحد أن يصغر قضية كبرى أو أن تستخدم في سجالات تصل إلى مستويات متدنية جداً”.

وبين أن قيادة السلطة في رام الله “لديها قرار معلن أن ملف عرفات لن يغلق إلا بكشف الجناة، مشدداً على أن هناك إجماعاً فلسطينياً على أن المتهم الأول هي إسرائيل بكافة أركانها ومؤسساتها العسكرية والاستخباراتية.

وتابع: “قادة إسرائيل أعلنوا في أكثر من مناسبة عن ضرورة تصفية عرفات جسدياً منذ عام 1995، لأنهم اكتشفوا عدم مقدرتهم على تطويعه بما يتلاءم مع سياساتهم، وقد تم اتخاذ القرار بتصفيته”.

وطالب رباح السلطة الفلسطينية ولجنة التحقيق باستخدام كافة المعلومات الصغيرة منها والكبيرة لخدمة التحقيق، وأن تأخذها بعين الاعتبار، مشدداً على ضرورة الضغط على الدول الكبرى للإفراج عن معلومات هامة في هذا الصدد.

وفي معقب رده على سؤال حول ما إذا كانت إسرائيل قد استخدمت فلسطينيين لاغتيال عرفات، قال: “هناك جواسيس يعملون لصالح إسرائيل في الساحة الفلسطينية وهذا أمر موجود ومن ينكره يكذب على نفسه، ولكن يجب التأكيد على أن الفاعل الأساسي هي دولة الاحتلال”.

تحقيق مفتوح

من جهته، أكد النائب الثاني لرئيس المجلس التشريعي الفلسطيني د.حسن خريشة، أن هناك شخصيات فلسطينية تحاول التسويق لنفسها من خلال طرح قضية مقتل ياسر عرفات، والسعي لتحقيق أهداف سياسية وإعلامية خفية.

وقال: “هناك شخصيات لديها أهداف سياسية وإعلامية في إثارة قضية موت عرفات”، مشدداً على أن الأهم في هذه اللحظة لدى الشعب الفلسطيني هو التركيز على البحث عن من قتل عرفات.

وأوضح أن من بين هذه الأهداف الخفية التي تسعى تلك الشخصيات لتحقيقها، إحداث زعزعة في استقرار البلاد، وإثارة الفتن بين جهات فلسطينية، فضلاً عن السعي لإحداث تغيير في الساحة الفلسطينية الداخلية، بعد أن أثارت دماء عرفات المشاكل بين قادة في السلطة الفلسطينية.

وأضاف: “من الواضح أن السلطة ارتبكت في طريقة تعاطيها مع هذه القضية الكبيرة، كما أنها سعت لتخويف الناس من الكشف عن قاتل عرفات لأنها لا تريد لهذا الملف أن ينتهي بمعرفة الجناة”.

وشدد خريشة على أن الإسرائيليين يقفون وراء مقتل عرفات، إلا أنه أكد أن أيدي فلسطينية عميلة لدى الاحتلال نفذت مخطط اغتياله، عبر إيصال مادة البولونيوم المشعة إلى مقر المقاطعة برام الله أثناء حصاره من قبل الاحتلال الإسرائيلي.

وكثرت مؤخراً تصريحات أطلقها عضو اللجنة المركزية لحركة فتح سابقاً محمد دحلان، تطالب بتشكيل لجنة تحقيق في قضية مقتل عرفات، رغم أنه كان من أبرز الشخصيات التي أدارت صراعاً مع الرئيس الفلسطيني الراحل.

وبهذا يقول خريشة: “إن دحلان يقود صراعاً داخلياً ضد حركة فتح، ويسعى لحسم أمره معها، ونحن كنواب ليسنا جزءًا من هذا الصراع، ولا نريد الخوض في مضماره”.

وأضاف: “مهما اختلفت هذه التصريحات والأهداف التي تسعى لتحقيقها من وراء ذلك، إلا أن هذه القضية شكلت حالة إجماع لدى كافة فئات وأطياف الشعب الفلسطيني، بالمطالبة بالكشف عن مَنْ قتل عرفات”.

وأكمل حديثه بالقول: “أتمنى من الفلسطينيين أن يركزوا على البحث عن قاتل عرفات ولا بد من وجود جدية حقيقية في هذا الأمر”، مفيداً بأنه إن لم تكن هناك جدية في هذا الموضوع “لن يصل الفلسطينيون إلى نتائج مؤكدة”.

ونوه إلى أن عملية فتح الملف وبشكل مفاجئ أربك حسابات الأطراف الخفية التي شاركت في عملية قتل عرفات، وحالت دون فتح تحقيق حقيقي في الحادثة.

وتابع: “منذ وفاة عرفات قبل 8 أعوام، لم تشكل لجنة تحقيق تحمل الطابع الجدي في العثور على نتائج قيمة حول أسرار هذه القضية”، لافتاً إلى أن هذه القضية “أثيرت من جديد في نفوس الفلسطينيين الذين يريدون معرفة من قتل هذا الرجل”.

الكف عن المتاجرة

وفي ذات السياق، دعت النائب في المجلس التشريعي عن حركة فتح نجاة أبو بكر، كافة التيارات المختلفة في حركة فتح “إلى الكف عن المتاجرة بدماء الشهيد عرفات، والسعي بيد واحدة لتشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة لمعرفة من قتل عرفات وكيف تم ذلك”.

وقالت أبو بكر: “يجب أن نتوقف عن إلقاء الاتهامات لبعضنا، والتركيز على الكشف عن الجناة ومسانديهم، فدماء ياسر عرفات أغلى من تناقضاتهم، ويجب أن يتوقفوا عن المتاجرة فيها”.

وأوضحت أن هناك “عتالين” للاحتلال لا يزالون يعملون لصالح الاحتلال وأمنه، هم من ساعدوا الاحتلال للنيل من عرفات وتسميمه، مشددةً على ضرورة إقصائهم عن الساحة السياسية ونبذهم.

ووقوفاً على ما سبق، قال أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح بنابلس د.عبد الستار قاسم: إن المطالبات بتشكيل لجنة تحقيق حول وفاة عرفات “هي مطالبات كاذبة، لأنه مضى على موت الرجل (عرفات) 8 سنوات، ولم يصر أي من تلك الشخصيات على تشكيل لجنة تحقيق، بل دفن الحديث عنه عند دفن جثمانه”.

وأضاف قاسم: “السلطة لديها تقارير طبية وفحوصات حول وفاة عرفات، كما أنها تملك مقتنياته وملابسه، وشكلت لجنة تحقيق وصرحت أنها ستحقق في أمر وفاته، ولكن لم تصل لجنتهم إلى أي نتائج، حتى اختفى الحديث عن وفاة الرجل”.

وأوضح أن الجميع في رام الله يعيشون في أجواء من المناكفات الحزبية التي دفعتهم للمزاودة على بعضهم البعض، مشيراً إلى أنهم سارعوا بإطلاق التصريحات المطالبة بالتحقيق في مقتل عرفات، لدفع الاتهامات عن أنفسهم، وللوقوف في صف البراءة.

وصرح قاسم بقناعته بأنه إذا كانت إسرائيل تقف وراء مقتل عرفات بشكل ما، فإن فلسطينيين أيضاً متورطون بذلك، “لأن سلطات الاحتلال لا تستطيع القيام بذلك بمفردها، وهي بحاجة لأشخاص مقربين من عرفات وبالتالي تمت التغطية على القضية وعدم الاستمرار في التحقيق”.

كما انتقد أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح، هيكلة لجنة التحقيق التي شكلها عباس للتحقيق في ملابسات وفاة عرفات، كون أعضائها ورئيسها من حركة فتح نفسها، وقال: “يجب أن تشكل لجنة مستقلة وجدية للتحقيق في مقتل عرفات، لأنه لا يجوز أن تكون اللجنة من حركة فتح نفسها”.

Exit mobile version