كلمة حرة

بأيّة طرق تتعامى المحاكم عن الجوانب الإنسانيّة بقضايا هدم بيوت المواطنين العرب؟- المحامي قيس يوسف ناصر

حينما يُهدم بيتٌ تُهدَّم عائلة وتُهدم كرامتها وحقوقها الأساسيّة في المسكن والعائلة والصحة والحرية والملكية وغيرها، لأنه من وراء كل بيت عائلة ووراء كل قضية إنسان. مع ذلك، حينما نناضل في أروقة المحاكم الإسرائيلية لإنقاذ بيت من الهدم لا تكترث المحاكم بالجوانب الإنسانية للقضية، وحقّ صاحب البيت وأولاده والعائلة في السكن والعيش بكرامة وسلام. ويعود ذلك في نظري الى منظومة قضائية، يكوّنها القانون والسوابق القضائية للمحاكم، والتي تجرّد القضية من جوانبها الإنسانية الخاصّة بصاحب البيت وظروفه الاجتماعية. 

المحامي قيس يوسف ناصر
المحامي قيس يوسف ناصر

ما هي أسس هذه المنظومة وأساليبها؟ 
أوّلا ــ لا تعتبر المحاكم وسيلة الهدم عقابا لصاحب البيت، بل وسيلة لإزالة مبنى مخالف. وقد قضت المحاكم غير مرة بأنّ أمر الهدم يخصّ البيت المخالف وليس صاحبه. أي إنّ المحاكم فكّكت العلاقة بين البيت وصاحبه، وهي تتعامل مع الحجارة والجدران وليس مع الانسان والعائلة! أي إن صاحب البيت- الانسان- ليس هو القضية وصلبها بل البيت- الحجارة- هي القضية وصلبها! واستنادا إلى هذا التصوّر لا تأبه المحاكم بالطعون التي تخصّ الظروف الانسانية لصاحب البيت، ولا بنتائج عملية الهدم الوخيمة على صاحب البيت وعائلته، فهو في نظرها ليس القضية بل البيت وحده هو القضية. ولهذا صادقت المحاكم في حالات كثيرة على تنفيذ الهدم رغم درايتها بأن اطفالا أو مرضى يسكنون البيت وليس لهم بديل سواه!

ثانياــ عند نظرها في طلب لإرجاء هدم لبيت ما، تطلب المحاكم حتى تجمّد الهدم أن يتوفّر في الاساس شرط مركزي يكاد يكون وحيدا وهو أن تكون “رخصة البناء في متناول اليد” أو حسبما تصفه المحاكم “الرخصة وراء الباب”. ويعني هذا الشرط حسب تفسير المحاكم أن يثبت صاحب البيت أنه سيحصل على رخصة البناء خلال أشهر قليلة جدًا. هذا في الحقيقة شرط تعجيزيّ لا يمكن تحقيقه في أغلبية القضايا المتعددة لأن الموافقة على مخطط هيكليّ تفصيليّ يحوّل الأراضي الزراعية للبناء ويمكّن أصحاب الأراضي من الحصول على رخص بناء يحتاج إلى سنين طويلة، وهي بالطبع ليست أمرًا يمكن تأمينه خلال أشهر كما تطلب المحكمة. ولا يقتصر الغبن والظلم في هذا الشرط على كونه تعجيزيًّا وغير واقعيّ فحسب، بل تتجاهل المحاكم عند وضع هذا الشرط أن المواطن لا يملك السيطرة على المدة الزمنية التي تستغرقها إجراءات المصادقة على المخططات الهيكلية، بل إن “ربّان السفينة” والمسيطر على إجراءات المصادقة على المخطّطات ومن يستطيع ضبط ميعاد المصادقة عليها، هو لجان التنظيم والبناء والمؤسّسات الرسميّة المعنيّة. أي إن المحاكم تكلفّ نفس المواطن العربي القيام بأكثر من وسعه وما هو فوق قدرته وطاقته، وتكون بشرطها المذكور بعيدة جدا عن الواقع وأقرب الى الوهم!

ثالثًا ـــ حتى اليوم لا يحفظ القضاء الإسرائيلي حقّ الإنسان في المسكن كحق دستوريّ يحظر مساسه، ولا يفرض القضاء على الدولة بمؤسساتها المختلفة تأمين هذا الحق، أو أن تؤمّن الظروف التي تمكّن الفرد من ممارسته كالتخطيط الهيكلي. هذا يعني أن الحق في المسكن حسب القضاء الاسرائيلي لا يمكّن الفرد من البناء حتى على أرضه الخاصة، كما أنه لا يمنع الدولة من أن تهدم بيتًا يأوي عائلة لا يوجد لديها بديل آخر للسكن. بل إن المحكمة العليا قضت ان تقصير الدولة في تحريك المخططات الهيكلية التي تمكّن المواطن من الحصول على رخص بناء لا يسوّغ للمواطن ولا يمنحه الحق أن يبني دون رخصة كي يسكن ويعيش! وحينما اعتبرت نظريات القانون وعلم الاجتماع المسكن جزءا لا يتجزّأ من كرامة الانسان وحريته، وشرطًا ضروريًّا لتطوره ولضمان حقوقه الاجتماعية الاخرى، فإن تجريد القضاء الاسرائيلي المواطن العربيّ حقه في المسكن إنما هو يجرّد من كرامته وانسانيته وكيانه. وأنوه أيضًا بأنّ هذا النهج يختلف عن نهج المحاكم في البلدان الديموقراطية المتطورة والتي يحظر القضاء فيها أن تهدم الدولة بيتًا إن لم يكن للعائلة التي تسكنه بديل سكنيّ .

رابعًا ـــــ إن البناء دون رخصة يعتبر حسب القانون الاسرائيلي “جريمة”. وعليه يتعامل القضاء الإسرائيلي مع من يبني بيته دون رخصة على أنه مجرم. ومن هذا المنطلق يقف صاحب البيت أمام القاضي على أنه مجرم وينظر القاضي اليه كمجرم. ومن هذا المنظار يكون صاحب البيت- الذي تراه المحكمة مجرمًا- منقوص الحقوق ومنقوص الكرامة ومنقوص الحرية، وتقف الدولة بالمقابل أمام المحكمة على أنها الطرف البريء الذي لا يسعى إلّا إلى تطبيق القانون والحفاظ على “المصلحة العامة”. بل إنّ المحاكم رأت غير مرة أن تجميد الهدم تلبية لطلب صاحب البيت يعدّ “جائزة للمجرم” و”تشجيعًا للجريمة”، وهو ما دفعها أن تصادق على الهدم دون تردد. وفي نهجها المذكور تتعامى المحاكم عن تقصير الدولة في تأمين المخطّطات الهيكليّة للبلدات العربية عقودًا طويلة، وهو ما دفع واضطر أغلب المواطنين العرب إلى البناء دون رخصة والمجازفة والمخاطرة ببيوتهم وأموالهم وطاقاتهم، والعيش بشكل مستمر تحت خطر الهدم وكابوسه! هكذا يتحوّل الضحية الى مجرم والمجرم الى ضحية!

خامسًا ـــ تتعامل المحاكم الإسرائيليّة مع البيوت غير المرخصة على أنها وباءٌ وبلاءٌ وطاعون يضرب البلاد، وهكذا وصفتها حقًّا في سوابق عديدة. ولهذا جنّدت المحاكم الاسرائيلية نفسها للقضاء على هذا الوباء! وفي سبيل معركتها ضد هذا الوباء، لا تدقق المحاكم في الظروف العينية لكل قضية وفي جوانبها الانسانية الخاصّة بل تدرجها بشكل مباشر كجزء من الظاهرة العامة للبناء غير المرخص، والتي تسعى المحاكم إلى الإجهاز عليها. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذه النظرة العامة الى ظاهرة البناء غير المرخص على أنه وباء يجب القضاء عليه، سوّل للمحاكم أن تنتهك حقوق أصحاب البيوت وأن تصمّ آذانها عن مظالمهم. ومع أنّ من واجب الطبيب الحكيم أن يقضي على المرض لا على المريض، نجد أن قرارات المحاكم التي تصادق على هدم البيوت تقضي على المواطن العربي والمجتمع العربي عامة، ولا تقضي على اسباب هذه الظاهرة التي خلقتها مؤسسات الدولة بشكل مقصود ومدروس.

في إحدى مرافعاته أمام المحكمة دفاعًا عن حقوق المواطنين السود في الولايات المتحدة، تحدى المحامي كلارنس دارو عدالة المحكمة بقوله “إن كانت المحكمة مقيّدة بالقانون، فإن الإنسان أقوى من القانون”! وأنا أقول الشيء ذاته لقضاة بلادنا: إن الضمير والعدل والإنسانية أقوى من القانون، وإنّ قانونًا لا يحترم حقوق الانسان الأساسيّة لا يستحق أن نسمّيه قانونًا. وعلى القاضي أن لا يكون “ماكنة” تطبّق القانون أو مثل “آلة حاسبة” تجمع وتطرح المعادلات الرياضية. على القاضي أن يكون قبل كلّ شيء آخر إنسانًا وصاحب ضمير حيّ ونزيه. للقاضي عينان وأذنان كما لكل الناس، وعليه أن يرى ويسمع الانسان الذي يقف في مركز كل قضية، وألّا يغض نظره ويصم أذنه عن المصيبة التي تحلّ في عائلة حكم عليها بالهدم والترحيل!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *