الفتن لا تموت.. غير أنها تنام، بقلم: المربي رفعت جبارة

نلاحظ في الاونة الاخيرة على وجود  ظواهر الفتنة، بدأت تطل برأسها من جديد اخذة، من التعصب منحى لها . والفتنة أشد من القتل.. ذلك لأنها تطيح بالعقول.. وتعمي البصائر.. وتُفقِد الإنسان توازنه.. بل وتُدخله في دوّامة غريبةٍ.. فيصبح غريباً، ولا عجب أن يرى ما ليس موجوداً، ويسمع ما لم يقله أحد.. أو يصدق ما لا يقبله عقل.

المربي  رفعت جبارة
المربي رفعت جبارة

والفتنة أشد من القتل وأكبر.. لأنها تُدخل مجموعات كبيرة من البشر في عالم التهيؤات والأباطيل والهواجس فيصير معها الصديق عدواً، والعدو صديقاً.. وتتحول فيها كتل بشرية غفيرة الى ما يشبه قطعان المواشي التي، بسذاجتها، تركض وراء الذئاب الماكرة، منحرفة عن أهدافها وحقوقها ومصالحها.

والفتنة أشد من القتل وأكبر.. لأنها تمزق المجتمع.. وتضرب وحدته وتبعثر طاقات الناس وتشل إراداتهم.. ناهيك عن أنها تعملق الأقزام وتقزِّم العمالقة, وتهيء المناخ المؤاتي للأعداء والانتهازيين والجبناء وأصحاب النفوس الدنيئة والرخيصة.

الفتنة إذا نفخ فيها السفيه اتقدت نارها وعظم شررها، وإذا وقعت الفتنة وابتلى بها الناس تاهت العقول واضطربت، والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، وهذا شأن الفتن كما قال سبحانه وتعالى: ” واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ”  .

ومن المؤكد ان نمو الاتجاهات التعصبية تفقد المجتمع وحدته واستقراره، حيث من الطبيعي أن يصبح لكل اتجاه تعصبي ضد فئة من المجتمع صدى ورد فعل عند الفئة المستهدفة، يشكل حالة مضادة للدفاع عن الذات وحماية المصالح، فيتحول المجتمع إلى ساحة صراع، وميدان احتراب، بين فئاته المتمايزة.  وكلما اتسعت رقعة الاتجاهات التعصبية، خسر المجتمع المزيد من أبنائه، الذين يتحولون إلى عناصر سلبية وهدّامة، بدل أن يبنوا حياتهم ويخدموا مجتمعهم . وبذلك تنهار وحدته ويتقوض أمنه واستقراره.

إن تمسك المجتمع بقيمه وأعرافه وتقاليده غير المسيئة للآخرين، هو تعصباً ايجابياً، وهو نوع من الأصالة، والحفاظ على الهوية، وممارسة حق التعبير عن الذات. ان يتمسك الإنسان بدينه الذي اختاره بقناعة وإدراك، وأن يلتزم بتعاليمه وأحكامه، فذلك أمر مرغوب ومطلوب، وإذا أُعتبر ذلك تعصباً فهو من النوع الإيجابي، كما يقول علي رضي الله عنه: “فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور”.

لا يخفى على أحد صعوبة الظروف الذي تمر بها بلدنا وطبيعة المرحلة التي حلت بنا وما لها من تأثير كبير على مجريات الامور في بلدنا ، ونحن في بلدنا نتأثر مما يجري من حولنا فبينما كان لنا الدور الكبير في تحطيم قيود الطغيان التي كانت بالامس القريب جاثمه على صدورنا فالدور الأكبر ينتظرنا في إعادة الإعمار والبناء ، وأخصكم  بالذكر هنا ايها الشباب فإن العيون ترقبكم والآمال معقودة عليكم أكثر من غيركم ، وليس ما يتمناه الصديق لكم كما يتطلع إليه الخصم فيكم .

أيها الشباب أظهروا للناس كافة، كيف يكون الالتزام والوحدة، حببوا التسامح في عيون أقرانكم ممن لم يسلك دربكم ، وأروا الناس منكم خيرا ، اضربوا كريم الأمثلة للشباب الملتزم الذي لم تدفعه تقلبات الأحداث إلا لمزيد من الإحساس بالمسؤولية ، والارتفاع فوق نشوات فارغة من المضمون .

إن الإمعان في تشويه صورة المستهدف أمام الأخرين ، ووصفه وتعريفه بطريقة غير موضوعية، ثم التعبئة والتحريض ضده، بإثارة مشاعر الكراهية والعداء، والذي قد يصل إلى تجريده من كل قيمة وحق ووصفه بما هو ليس عليه، كل ذلك يهيئ المتلقي للاستجابة للتوجهات التعصبية، والانخراط فيها، والتفاعل مع ممارساتها العدائية.

ولا بد من تضافر الجهود الواعية، واستنفار القوى المخلصة، لمواجهة هذه الظاهرة الخطيرة، التي تهدد مستقبل المبنى الاجتماعي، بما تسببه من انقسام وتمزق داخلي، ومن تقويض للحمه الاجتماعيه، والتحريض على الاخرين، وتأجيج الصراعات في المجتمع الواحد. ان الواجب يقتضي من كل فرد منا مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة، واستخدام كل ما امكن من الوعي لكي لا تزيدها في مواجهتنا لها تصلباً وشدة، والمطلوب اعتماد برامج وخطط شاملة لمعالجة جذور الاتجاهات التعصبية، وللحد من قدرتها على التأثير والانتشار .

وهنا يأتي دور التربية في جميع مراحلها ، من خلال الدور الموكل لها في موؤسسة التربية والتعليم محاربة هذه الظاهرة في مرحلة الطفولة وفي أحضان العائلة، ثم عن طريق برامج التعليم، في توجيه مشاعر الأبناء، وترشيد توجهات الشباب، ليستقبلوا الحياة بروح منفتحة، ونفسية طيبة، غير ملوثة بالعقد والأحقاد .

فما أحوجنا في هذه الأيام، الى تلك العقلية الحضارية الناتجة عن فهم عميق للدين ومفاهيمه، وللإيمان ومقتضياته، وللمجتمع ومصالحه، وللأمة وأحلامها وآمالها وأمانيها..ما أحوجنا في هذه الأيام الى معرفة أن التدين والجهل اذا التقيا فثمرة تزاوجهما “التعصب الأعمى” والمزيد من إطلاق الغرائز والعصبيات والفتن والحروب والشرور..

ما أحوجنا في هذه الأيام الى إدارك أن الفتن لا تموت.. غير أنها تنام.  الفتنة نائمة فلعن الله من أيقظها.. كما لعن الله قوماً ضاع الحق بينهم.

لا تحدثني عن الدين ولكن دعني ارى الدين في سلوكك واخلاقك وتعاملاتك .

Exit mobile version