اللُّغَةُ العَرَبِيَّة ُ: لغَةُ حَضارَةٍ لا تَزالُ شامِخَةً في الأَنْدَلُسِ، بقلم: عبير عبد القادر النَّاشف

أَخُطُّ كَلِماتي هذِهِ عَلى ثَرى الأَنْدَلُسِ.  مَهْدُ الحَضارَةِ العَرَبِيَّةِ والإِسْلامِيَّةِ العَريقَةِ في الغَرْبِ.  تُلازِمُني مَعالِمُها التَّارِخِيَّةُ حيثُما امْتَدَّ بَصَري من موقعي هذا.  ما أَروَعَ تِلْكَ الحَضارة الّتي اتَّخَذَت مِنَ العَرَبِيَّةِ لُغَةً لَها. لُغَةُ طِبٍ وَعِلمٍ وَأَدَبٍ وَشِعْرٍ.  لُغَةٌ اعْتَزَّ بِها أَصحابُها ثَمانيمائةِ عامٍ، وَدَوَّنوها في أَسفارِ العلمِ والمَعْرِفَةِ، وَنَحَتوها على جُدرانِ القُصورِ والمساجِدِ والقِلاعِ، وَنَقَشوها  في الأَروِقَةِ والسَّاحات لتغدو زينَةً وُرُقِيّاً معمارياً يَسُرُّ الأَبْصارَ ويُغَذِّيَ النُّفوسَ والعُقولَ.

إِنَّ المُلِمَّ في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ الفُصحى وَآدابِها في هذا البَلَد، لَهُ كُلّ احترامٍ وَتَقديرٍ مِن مُثَقَّفيها. فَإِنَّهُم يَرَونَ بالّذي يُجيد هذِهِ اللُّغَةَ القَيِّمَةَ، كَمَن مَلَكَ أَسرارَ الحَضارَةِ العَرَبِيَّةِ والإِسلامِيَّةِ بِأَكْمَلِها، وَيثنون على مَعْرِفَتِهِ لها، إلى حَدِّ أَن يَتَمَنّى البَعْضُ مِنْهُم بأَن يُجيدَها هوَ أَيْضاً، لِتَكْتَمِلَ مُتْعَتُهُ بكُلِّ التَفاصيلِ المِعماريَّةِ والأَدَبِيَّةِ والعِلْمِيَّةِ الَّتي خَلَّفَتْها حضارَةُ النَّاطقينَ بالضّاد لِثَمانِيَةِ قرونٍ على هذا الثّرى.

إِنَّ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ لا زالَت راسِخَةً بِجُذورِها على هذه الأَرض، وَقَد مَضت قُرونٌ على نهايَةِ الحُكِمِ العربِيِّ والإسلامي فيها.  فَبَيدَما الأُمَّة العَرَبِيَّة تَتَطَلَّعُ لتَسْمِيَةِ أَبنائِها وَبَناتِها بِأَسماءٍ أَجْنَبِيَّةٍ قد يكونُ بَعْضُها خاوٍ مِنَ المعنى، أَقْبَلَ الإِسبانُ مُنْذُ عُصورٍ ولا زالوا يُقْبِلونَ على تَسْمِيَةِ أَبنائِهِم وَبَناتِهِم بِأَسْماءٍ عَرَبِيَّةٍ فُصحى يفوحُ مِنها عَبَقُ الحضارَةِ العَرَبِيَّةِ والإِسلامِيَّةِ الّذي تتوارَثُهُ الأَجْيالُ في هذا البلدِ، جيلاً عن جيلٍ.  فَلَرُبَّما حامِلُ الإِسمِ وَحامِلَتُهُ قد لا يُدرِكونَ معناهُ أحياناً، وَلكنهم يحملون الإِسمَ واعينَ وَواعِيات أَنَّهُ ذو أَصلٍ عَرَبِيٍ وَهم يَعتَزُّونَ به.  فلا عَجَبَ إذا زار أَحَدُكُم هذا البَلَد وتَرامَت لمَسامِعِهِ أَسماءٌ مِثْلَ: فاطِمَة، نادِيَة، عائِدَة، المُدَيْنَة (صيغَةُ التَّصغيرِ لِمَدينة)، السَّوْسَنَة. وأَسْماءٌ مُذَكَّرَةٌ أُخرى مِثْلَ: إسماعيل أو زَكَريّا أَو غَيْرِها مِمَّا كَثُرَ، فلا يَحسَبَنَّ أَنَّ حامِلَها عَرَبِيٌ أَو عَرَبِيَّة بل إِسبانِيٌّ وإِسبانِيَّةٌ يَعْتَزُّونَ بحَمْلِ أَسماءِ العَرَبِ مِن أَجدادِهِم.

أَمَّا النّاطِقُونَ بالعَرَبِيَّةِ مِمَّن يَدْرُسُونَ وَيَتَعَمَّقونَ في اللّغَةِ الإِسبانِيَّةِ وَنَحْوِها وَصَرْفِها وَآدابِها، فَإِنَّهُم يَقِفُونَ مَذهولينَ أَمامَ الكَمِّ الهائِلِ مِنَ الكَلِماتِ الّتي يَحْويها مُعْجَمُ الأَكاديمِيَّةِ المَلَكِيَّةِ الإِسبانِيَّةِ مِن أَصْلٍ عَرَبِيٍّ، تفوقُ بِإِجمالٍ تَقْديرِيٍّ، الثّلاثة آلاف كَلِمة، تُكْتَبُ وتُلفَظُ بِحُروفٍ لاتينِيَّةٍ. أَمّا لِقارِئِها، لِسامِعِها وَلِمُتَحَدِّثِها، فَإنَّها عرَبِيَّةٌ بَحْتَة! فلِناطِقي اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، مِمَّن لَدَيهم الشَّغَف لدِراسَةِ اللُّغاتِ، قد تكونُ اللُّغَةُ الإِسبانِيَّةُ لَهُم أَكْثَرَ قُرْباً للعَقلِ والقَلبِ مِن أَيِّ لُغَةٍ أَجنبيّةٍ أُخرى. فَهِيَ لُغَةٌ حَلَّت العَرَبِيَّةُ ضَيْفَةً عَلَيها مُنذُ عُصُور.

فَمِثْلَما حافَظَ الإِسبانُ عَلى إِرْثِنا العَرَبِيِّ والإِسلامِيٍّ في الأَندلسِ، فَلَرُبَّما حانَ الوَقتُ أَكْثَرَ مِن أَيِّ حِقبَةٍ مَضَت، أَن نَتَعَمَّقَ نَحْنُ العَرَبُ بِدِراسَةِ لُغَتِنا العربيّةِ الفُصحى الأَصيلة، وَأَن نَعِيَ قيمَتَها اللغوِيَّة والثَّقافِيَة والحضارِيَّة السَّامِيَة، وأَلاَّ نَحْكُمَ عليها بالإِنْدِثارِ.  فلا مانِعَ مِن دراسَةِ اللغاتِ الأَجْنَبِيَّةِ وثقافاتِها كافّة، ولكن بَعْدَ دِراسَةِ اللّغةِ العَرَبِيَّةِ أَو بالمُزامَنَةِ معها، لأَنَّ الدَّارِسَ سَيَعي كم تتفوَّق اللغةُ العَرَبِّيَةُ على غَيْرِها بِجُلِّ المَعاني وَعُمْقِ المُرادِفات، وَجَمالِ اللَّفْظِ وَرَوْعَةِ المَخطوطِ.  فكَيْفَ لا تَكُونُ كذلِكَ، وقَد اختارَها اللهُ عَزَّ وَجَلّ من باقي لُغاتِ الكَوْنِ لتَكونَ لُغَةَ القُرآنِ الكَريمِ.

فَإِنَّها لَدَعْوَةٌ للمُثَقّفين والأَكاديميين وقُرَّاءِ كلماتي هذه، مِمَّن تُتاحُ لهم الفرصة، لزِيارَةِ متاحِفِ ومَكْتَباتِ إسبانيا والَّتي تَعُجُّ بِبَصَماتٍ حَيَّةٍ مِنَ تاريخٍ عريقٍ ناطِقٍ باللّغةِ العَرَبِيَّةِ، قد خَلَّفَ صُروحاً شامِخَةً في هذه البُقعَةِ مِنَ الكَوْنِ، وأَنارَ بِنُورِهِ على العالَمِ أَجمع.  أَمَّا المَكْتَباتُ فَهي تَعُجُّ بِنُسَخٍ مخطوطةٍ في كافَّةِ مجالاتِ العلومِ والآداب، وَبِمَصاحِف قُرآنِيَّةٍ خُطَّت بالذَّهَب، وبكافَّةِ خطوطِ اللّغَةِ العربيّةِ الجميلَةِ، ونُقِشَت بِأَلوانِ حَدائِقِ الأَنْدَلُسِ البَهِيَّةِ الغَنَّاء. مَكْتَباتٌ هِيَ ذاتُها شاهِدَةٌ على التّاريخ، يفوحُ مِنها عبقُ الرَّازي وابن سينا وابن رشد والزّهراوي وابن البيطار وابن زُهْر وابن ميمون والخوارزمي وعُلَمائِنا اللّذين لا تَتَّسِعُ السُّطورُ لذِكْرِ جميعِ أَسمائِهِم سواءً كانوا مِنَ المَشرِقِ أَو المَغرِب. فَكُلٌ مِنهم قد سَبَقَ لَهُ الجُلوسُ بباحاتِ مسجِدِ قرطبة الشَّهير، جامِعَةُ العَصرِ الذَّهبِيِ في الأَنْدَلُس، لِيَنْهَلَ مِنَ العِلمِ وَيُنْهِلَهُ.

أمَّا الدَّولَة الإِسبانِيَّة، فَإِنَّها تُكَرِّسُ بِدَوْرِها أَموالاً طائِلَةً سَنَوِياً لِتَحْتَفِظَ بِكُلِّ هذهِ التُّحَفِ المَخْطُوطَةِ وَما تُرْجِمَ مِنها قديماً، بِخَزائِن خاصَّة تَتَمَتَّعُ بدَرَجاتِ حَرارَةٍ ورُطُوبَةٍ مِثالِيَّتَيْن، لكي تَبْقَى هذه الكتُب والمراجِع القَيِّمَة تَتَّسِمُ بِجَوْدَةٍ عالِيَةٍ وَلِتَنْعُمَ بِحَياةٍ مُسْتَقْبَلِيَّةٍ قد تكونُ أَطْوَلَ مَدى مِنَ القُرونِ الّتي مَضَت عَلَيها، لِتَخْدُمَ العُلَماءَ والباحِثينَ وطالِبي العِلْمِ والمَعْرِفَةِ على مدارِ السِّنين.

 فَمَن ادَّعى بِأَنَّ شَمْسَ الحَضارَةِ العَرَبِيَّةِ والإِسلامِيَّةِ وَلُغَتِهِما قد غابَت عَن الأَندَلُسِ، فليَقُمْ بِزِيارَةِ المَكْتَباتِ العَريقَةِ في عُمُومِ شِبْهِ الجَزيرَةِ الآيبيرِيَّةِ، وَبِقِراءَةِ كُتُبِها النَّفيسَةِ، ليَكْتَشِفَ أَنَّ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ وحضارتها لا زالَتا قائِمَتَيْنِ على قَيْدِ الحَياةِ هناك، وَتُدَرَّسنَ في جامِعاتِ إسبانيا وأوروبا بِكُلِّ شُموخٍ وفَخْرٍ واعْتِزازٍ لِرَوْعَةِ ذلك الإِرْثِ اللَّغَوِيِّ والثَّقافِيِّ والحَضارِيِّ الّذي خَلَّفَهُ العَرَبُ، ليسَ للإسبانِ فَحَسْب، بل إرثاً عالَمِياً للإِنسانِيَّةِ جَمعاء. وَسَيَبْقى هذا الإِرثُ بانْتِظارِ مَن يَبحَثُونَ عَنْهُ، وَيَتَواصَلون مَعَهُ، وَيُعيدونَ مَجْدَ دِراسَتِهِ ومُطالَعَةِ نُصُوصِهِ، والتَبَحُّرِ بِأَسرارِ ثَرَواتِهِ العِلْمِيَّةِ مِن جَديد.

بِقَلَمِ الباحِثَة الأَكاديمِيَّة والمُحاضِرة الجامِعِيّة:

عبير عبد القادر النَّاشف

Exit mobile version