الرجولة في بلدي تباع وتشترى بالرصاص، بقلم : ناضل حسنين

كلما تذكرت اقتراب موعد فرح في حارتنا، ساورني القلق الشديد. خلافا للناس، فهم يستبشرون خيرا بالأفراح والليالي الملاح، أما انا فيتسلل الذعر الى نفسي ويستحوذ على تفكيري وانتباهي طوال الفترة التي تسبق الفرح وخلال ليالي الفرح الى ان يمر حمام العريس وتمر السهرة ويتوجه عريسنا وعروسه لقضاء شهر العسل بعيدا عن انظارنا. فقط عندها أتنهد وأسترخي للهدوء.

قد يقول قائل: ما هذا التشاؤم؟ ولكني لا اتشاءم من فراغ! المقصود هنا هو الكم الهائل من الذخيرة النارية التي تستخدم خلال هذه المناسبة ولا سيما اثناء “حمام العريس”، وكأن “حمام العريس” تحول منذ سنوات الى مناسبة لاستعراض السلاح وليس تقليدا اصيلا من تراثنا الفلسطيني.

في حمام العريس يتوجه البعض لحضور هذه المناسبة بعد ان ارتدى قميصا فضفاضا عن قصد، ليخفي تحته “الشقفة” كما يسميها المتلهفون الشغوفون بهذه الظاهرة، و”الشقفة” عادة، لا تقل عن مسدس معتبر، إن لم تكن “ام 16” او كلاشنيكوف او “عوزي” أي قطعة سلاح لا يمكن التعرف على هويتها.

ويكون هذا “الملهوف” عادة قد تزود بكثير من الذخيرة من اعيرة نارية اشتراها سرا عبر شخص ثان وثالث ورابع، وتعاون من اجل الحصول عليها مع عدة اشخاص على مدار ايام طويلة قبل موعد حمام العريس المذكور بمدة طويلة، فهو يعتبر حمام العريس المناسبة الاهم لاستعراض “الشقفة” التي بحوزته لعله يكتسب بهذه الطريقة بعضا من “الهيبة والاحترام” وسط “الشلة” بعد ان ثبت له بؤس فكره.

يقول كبار السن، ان “المعازيم” في الماضي، كانوا يتباهون خلال الأعراس بأجمل ملبس يرتدون، وكان الاهل والجيران يبذرون حبات الشوكولاتة فوق رؤوس الحاضرين تعبيرا عن البهجة، وكنا نحن الصغار نتسابق الى جمع حبات الشوكولاتة من على الأرض بسرعة البرق فرحين مبتهجين. اما اليوم ففوق رؤوسنا تتطاير الاعيرة النارية من كل اتجاه ويتسابق صغار اليوم على جمع “الخراطيش” الفارغة التي تقفز من “الشقفة” على الساحة من حولنا.

انه لمن المؤسف ان تسود في بلدنا ثقافة الذعر كوجه من أوجه الاحترام والمكانة الاجتماعية. فبعد ان كان الاحترام قائما على الحرص ألاّ تخسر صداقة عزيز عليك، فتحترمه بعمق، وعلى الحرص ألاّ تغضب والديك فتراعي مشاعرهما بطاعة خالية من النقاش، بات الاحترام اليوم يعتمد على بث الذعر في نفوس الآخرين. لقد تحول المشهد الى حالة من الإرهاب بكل المعايير، وهو بلا شك نتاج افلاس تربوي واخلاقي وغياب رادع قانوني.

لا أدري من أي تراث تسللت الينا هذه العادة التي حوّلت مناسبة بهيجة مثل “حمام العريس”، الى مناسبة للتباهي بأسلحة تستخدم بلا رادع؟ هنا لا اتساءل عن دور الشرطة، لأنها على ما يبدو، تحاول مؤخرا التذكير بوجودها بين الحين والآخر بعمليات استعراضية لجمع السلاح غير المرخص. اما السلاح المرخص بحوزة أعوانها ويستخدمونه كالزعران لإطلاق النار في الاعراس هم ايضاً، فلا بأس ان يدوي ويصم آذان الجميع وآذان قائد الشرطة كذلك.

سؤالي عن مستوى الاخلاق الذي انحط الى ما تحت الخط الاحمر. وإذا كنا نتعامل بنوع من التغاضي عن الشبان الذين يستخدمون الاسلحة للابتهاج على طريقتهم في حمام العريس، لكونهم يعانون من نقص الثقة بالنفس، فإن اللوم والعتب في المقام الاول موجه الى كبار القوم. الى اولئك الذين يجلسون وسط الحاضرين لهذه الافراح والرصاص يتطاير من فوق رؤوسهم دون ان يحركوا ساكنا. هل اصيب حتى الكبار بطيش الصغار ام انهم عاجزون عن ردع ابنائهم ومنعهم عن هذه التصرفات؟

الأهل الذين يرون بأم اعينهم ابنهم يستخدم السلاح “عيني عينك” في حمام العريس، لا يملكون الحق الادبي بالتظاهر بالبراءة حين يقع ابنهم ضحية لإطلاق النار سواء اعتدى على آخر او تعرض هو نفسه للاعتداء؟ ألم يقل العرب ان “طباخ السم لا بد ذائقه”!

ان مجرد حضور حمام عريس يستخدم فيه السلاح، يعتبر اهانة شخصية موجهة لكل عاقل بالغ يجلس وسط المدعوين. والغريب ان الاهانة لا يمكن السكوت عليها إلا إذا اصيبت معاييرنا الاخلاقية باعوجاج أصبح معه استخدام السلاح مفخرة للعائلة !!

اذكر في الماضي ان من كان يحمل السلاح هم فقط اعوان السلطة، وكنت اسمع الكبار يقولون انهم لا يحضرون اعراسا تطلق فيها ولو رصاصة واحدة، لأن هذا يعني انهم اجتمعوا مع اعوان السلطة في فرح واحد وذلك بحد ذاته اهانة لهم، فمجرد سماع دوي اول رصاصة ينهض كل من يحترم نفسه ويغادر الفرح حتى لو كان فرح قريبه.

أما اليوم فالسلاح لم يعد يقتصر على اعوان السلطة بل انتشر لدرجة ان شابا في الرابعة عشرة من العمر اصبح بوسعه التزود بالسلاح لأن معايير الاخلاق في هذا المكان والزمان اصيبت بانتكاسة عميقة، ورغم الزيادة العددية المهولة في المثقفين والاكاديميين في الطيبة، إلا ان الازعر يحتل بوقاحته واجهة البلد ويتحكم بسمعتها وهو من يحدد معايير الاخلاق في شوارعها وهو من يتوسط المشهد ويحتكر السلطة والقوة في لياليها بقطعة من الحديد يلهو بها، لأن عالمه فارغ من كل شيء سوى من هذه الدمية الدامية.

Exit mobile version