5هذه طيبتي

لماذا يغني ديفيد ليفي لفريد الأطرش؟

ما ان تطأ قدمك سوق “هكرمل”، اكبر الاسواق الشعبية في مدينة تل ابيب، كبرى المدن اليهودية في الدولة العبرية، فإن اكثر ما يلفت نظرك هو مكبرات الصوت التي تصدح بأغان لمطربين ومطربات عرب في جنبات السوق.

1

فأصحاب المحال التجارية في هذا السوق هم من اليهود الشرقيين، كما ان الاغلبية الساحقة من الذين يرتادونه ايضا من ذوي الاصول الشرقية. فإلى جانب انهم بطبعهم يستمعون للغناء العربي، فإن اصحاب المحال التجارية يحرصون على اسماع الاغاني العربية كصورة من صور التنافس بينهم لجذب المشترين.

ففي القسمين الغربي والشمالي، حيث ان معظم اصحاب المحال التجارية من اليهود الذين هاجروا من العراق، فإنك تسمع اغاني المطربين العراقيين القدامى: ناظم الغزالي وصالح الكويتي وبشرية غالي وحسين سابي وغيرهم. وفي الناحية الجنوبية حيث يوجد اليهود المصريون فانك تسمع بشكل خاص اغاني لام كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الاطرش وعبد الحليم حافظ.

وفي المحطة المركزية في مدينة، تل ابيب التي تبعد نصف كيلومتر الى الشمال من السوق يوجد عدد كبير من المحال التي تبيع اشرطة الاغاني العربية من اقطار عربية عديدة، فاليهود الشرقيون وبعد اكثر من نصف قرن على مغادرتهم الدول العربية ما زالوا يحافظون على الاستماع للأغاني العربية، وقد نقلوا هذا الميل الثقافي لابنائهم، واحفادهم، فأحياء حفلات الزواج عند هؤلاء اليهود تتم على انغام الموسيقى العربية، وهناك مطربون شرقيون متخصصون في احياء هذه الحفلات بأداء اغان عربية.

ومن المفارقات ان قناة التلفزة الاسرائيلية الثانية عرضت قبل شهر مقطع من حفل زفاف ابنة وزير الخارجية الاسرائيلي الاسبق ديفيد ليفي، المغربي الاصل، وقد ظهر الوزير على شاشة التلفاز وهو يراقص ابنته مرددا خلف المطرب الذي كان يحيي الحفل كلمات اغنية فريد الاطرش “جميل جمال، مالوش مثال”.

واذا كان اليهود الشرقيون يستمعون للأغاني العربية فان هناك في اسرائيل من حرص على سرقة الحان الاغاني العربية لكي يركب عليها اغاني عبرية لكي تكتسب شعبية في اوساط الشرقيين. واللافت للنظر ان هذه الظاهرة اصبحت مشهودة في العقدين الاخيرين، بل ان نجوم الغناء العبري الشرقي في الدولة العبرية امثال آفي جولان وزوهر ارجوف من قبله وزهافا بن يعتمدون على مثل هذه الالحان، فمثلا لحن اغنية “محبوبتي محبوتي” او بالعبرية “اهافتي، اهافتي” التي يغنيها المطرب افي جولان، هي في الحقيقة الحان اغنية “مريم مريمتي” التي يؤديها احد المطربين اللبنانيين.

وهناك من المطربين من يلجأ الى ملحنين من اصول شرقية لكي يطوروا الألحان العربية لكي تلائم طبقات أصواتهم ويحظوا بالشعبية في اوساط الشرقيين من اليهود. وقد وصل الامر ببعض المطربين اليهود الشرقيين ان سافروا الى العديد من الدول العربية لكي يعثروا على بعض الالحان لأغان قديمة تترك اثرا في نفوس اليهود الشرقيين في الدولة العبرية، مثلما عملت المطربة زهافا بن التي سافرت لليمن ومكثت مدة طويلة هناك في مسعى للعثور على اغان والحان تناسب ذوق اليهود من اصول يمنية.

ومن الملاحظات ذات المغزى ان جمعيات يهودية تعنى ببعث الثقافة الشرقية في الدولة العبرية اقامت فرقا موسيقية تعنى بغناء الشعر العبري الذي نظم ابان وجود اليهود في الاندلس حتى اواسط القرن الخامس عشر. وهناك فرق يطلق عليها الفرق الاندلسية، وبعض هذه الفرق تتغنى بالموشحات الاندلسية التي نظمها الشعراء العرب في تلك الفترة. ويقوم اثرياء ورجال اعمال يهود من اصول شرقية بتمويل عمل هذه الفرق.

وهنا تجب الاشارة الى انه ليست فقط الاغاني العربية هي الرائجة فقط في اوساط اليهود الشرقيين، فليس كل اليهود الشرقيون هاجروا من بلدان عربية، لذا نجد ان هناك انتشارا للأغاني الفارسية في اوساط اليهود الذين هاجروا من ايران. فمثلا يعترف الرئيس الاسرائيلي موشيه كتساف وكذلك رئيس هيئة اركان الجيش الاسرائيلي الجنرال شاؤول موفاز وكلاهما من اصول ايرانية انهما يحرصان على الاستماع للأغاني الفارسية.

واذا كان اليهود الشرقيون يستمعون للغناء العربي او اغان عبرية بألحان عربية او شرقية، فإن اليهود الروس الذين يمثلون اكبر تجمع اثني في الدولة العبرية لا يستمعون مطلقا للأغاني العبرية، لسبب بسيط وهو ان الاغلبية الساحقة من اليهود الذين قدموا من روسيا وبقية الدول التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي لا يجيدون اللغة العبرية، وهناك من اليهود الروس من مضى على وجوده اكثر من عشر سنوات، ومع ذلك يجد صعوبة في اجادة هذه اللغة، ولذا كان التنافر حادا وقاطعا بين هؤلاء والثقافة العبرية الاسرائيلية، فهؤلاء لا علاقة لهم بمركبات الهوية الثقافية التي تحاول الدولة العبرية تكريسها في اوساط المهاجرين الجدد. وايضا الغناء لدى الروس هو مثال آخر يعكس القطيعة بين هؤلاء والثقافة الاسرائيلية. فهؤلاء اقاموا محطات اذاعية وقنوات كوابل تلفزيونية خاصة تعنى فقط ببث الاغاني باللغة الروسية. والى جانب ذلك فان ممثلي اليهود في الحكومة والبرلمان الزموا وزارة الداخلية والشرطة بالسماح لمطربين روس بالاقامة في اسرائيل من اجل احياء حفلات غناء في مسارح ونوادي ليلية روادها من اليهود الروس فقط. والى جانب ذلك فان قيادات اليهود الروس في الدولة العبرية شجعوا على ظهور مطربين ومطربات من بين المهاجرين يغنون باللغة الروسية، او باللغات الاخرى التي يتحدثها سكان الجمهوريات التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي سابقا. وقد استطاعت القيادات السياسية لليهود الروس اقناع الحكومة بتخصص اموال طائلة نسبيا لدعم المؤسسات التي تعنى بالغناء الروسي، مع ان هذا يمثل ضربة للحركة الصهيونية التي حلمت ان تكون العبرية والعبرية فقط هي حاضنة الفن والغناء كما جميع مركبات الهوية الثقافية لليهود في اسرائيل. واللافت للنظر ان الساسة الاسرائيليين وجدوا انفسهم مجبرين على تملق اتباع التجمعات الاثنية المختلفة من اجل كسب تأييدهم السياسي، ففي الانتخابات الاخيرة عكف ارييل شارون على حفظ كلمات اغنية روسية لكي يشارك اطفال الروس اداء اغنية اثناء حملته الانتخابية وذلك لكسب ودهم. وما يحدث للروس يحدث لمعظم اتباع الاقليات الاثنية الاخرى.

عرفت الدولة العبرية نفسها على انها “امتداد للحضارة العلمانية الغربية وسط الشرق المتخلف” كما قال بن غوريون يوما، ولذا فقد وجهت الدولة كل طاقتها من اجل دعم النزعة الغربية لكل من مركبات الهوية الثقافية، ومن هنا فقد حرصت الدولة على تشجيع الغناء والموسيقى العبرية التي تعتمد الانماط الغربية في الاداء، واهتم اليهود العلمانيون الغربيون (الاشكناز) الذين اقاموا الدولة اليهودية بالغناء بالعبرية، وبالفعل لهذا الغناء نجومه الكبار: امثال ريتا، وآفي ليخشتاين، وبني كاسي وغيرهم، ومعظم انصار هذا الغناء هم من الطبقات المتوسطة.

لكن تضخم الجماعات الاثنية الاخرى جعل مجال هذا الغناء وانتشاره ينضمر الى حد كبير. لقد ادعت الحركة الصهيونية عندما اقامت الدولة اليهودية انها قد جعلت من هذه الدولة “بوتقة”، لصهر جميع الثقافات التي ينتمي اليها المهاجرون الجدد لكي تتوحد هذه الثقافات في ثقافة اسرائيلية غربية واحدة.

وقد اعتبر اقطاب الحركة الصهيونية ومنظروها هذا الهدف احد اهم الاهداف الواحب تحقيقها من اقامة الدولة. واذا كانت الهوية الثقافية لأي شعب من الشعوب تتكون من اللغة، والتراث والعادات والادب والموسيقى والفن، فان ما يحدث للغناء في اسرائيل يدل على انه لا توجد هناك ثقافة اسرائيلية موحدة، الامر الذي يعكس فشل الصهاينة في بلورة ثقافة عبرية اصيلة فشلا ذريعا.

ويعتبر استاذ علم الاجتماع الاسرائيلي باروخ كيلمبرغ تعدد الثقافات الاثنية في اسرائيل كما يعكسها الغناء لا يمثل تعددية ثقافية بقدر ما يعني زيف ادعاء الصهيونية بوجود شيء اسمه “قومية يهودية”. في حين يرى الباحث ايلان شوحاط ان استمرار الشروخ الثقافية بين الاقليات الاثنية في الدولة العبرية قد تهدد وجود الدولة وقدرتها على درء الاخطار من الخارج.

بقلم: صالح محمد النعامي – غزة

تعليق واحد

  1. في شرقنا ضاعت اغنيات …في شرقنا الكل في سبات ..شكرا على المقال الاكثر من رائع وهذه حقيقه اليهود استفادوا من ثقافتنا وما زلنا نبحث عن االرخيص لكي نفلده .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *