اضواء على ريما الطيباوية التي انهت الخدمة العسكرية في الجيش

ريما فتاة في العشرين من العمر، لأب من الطيبة وأم اجنبية من احدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقا، تصدر اسمها مؤخرا العناوين حين ظهرت في التقارير المصورة المطولة والمفصلة وهي ترتدي البزة العسكرية للجيش الاسرائيلي.

حين تلمح تقريرا كهذا لا بد لك كمواطن عربي او كأحد ابناء الطيبة ان تتوقف في الحال وان تتمعن كل حرف مما كتب ومما لم يكتب في التقرير، وان تحاول استيعاب الرواية المطروحة في التقرير ورسالتها الى المجتمع الاسرائيلي وان تبني الحقيقة الكاملة بنفسك بعيدا عن رسالة التسويق التي جاءت بها الصحافة العبرية حين تناولت رواية ريما.

حين ينفصل الوالدان وتنتقل الام بأولادها للعيش منذ عام 1996 الى مدينة في الوسط اليهودي، يقع الشرخ الاكبر على الاولاد، ويكون اثره متعلقا بجيل كل منهم وبقدرته على الصمود امام هذا الواقع الجديد.

ريما ليست ابنة وحيدة لأبويها، لها اشقاء وشقيقة. عانت الكثير في المدرسة التي انتقلت اليها في المدينة الجديدة وسط الطلاب اليهود، فكانت تسمع الشتائم الموجهة اليها والتهم بأنها عربية ارهابية من زملائها الذين لا يتقنون دبلوماسية التعامل مع الآخر، وكانت أي واقعة ذات طابع قومي حتى وإن كانت في قطاع غزة تتحول الى محور وسبب لقذفها بأشد العبارات باعتبارها تمثل الطرف الآخر، نقاش وخلاف لا ينتهي، تكون فيه ريما عادة الجانب الاضعف.

لا نحاول البحث عن اعذار لها. ولكننا نبتغي فهم الصورة من كل جوانبها، ولاسيما بعد حوارنا مع والدها.

قال الوالد: “اولادي كغيرهم من ابناء الزيجات من جنسيات مختلفة، تلقى كل من يبلغ سن التجنيد منهم استدعاءً للخدمة في الجيش، وكان كل منهم يصرح بأنه مسلم ولا يطاله قانون الخدمة العسكرية فكان يحصل على الاعفاء على الفور، وهذه حالة معروفة حدثت للكثيرين من الطيبة ممن تزوجوا من نساء لا يحملن الجنسية الاسرائيلية”.

يبدو ان حالة ريما بدت لبعض الجهات المعنية مدخلا مريحا جدا لاختراق الرفض العام لفكرة الخدمة المدنية التي تطرحها السلطات بين الحين والآخر وبنبرات متباينة تتراوح بين التهديد والوعيد وبين الترغيب والتحفيز، فحملتها الى صدر الصحف والمواقع الالكترونية كالخبز الساخن حتى ان مواقع عربية انضمت الى هذه الجوقة فترجمت حرفيا ما يقال بالعبرية للمواطن اليهودي.

ويتابع الوالد: “كذبوا على لسانها انها فخورة بخدمتها في الجيش، ولم يحاول احد منهم التساؤل لماذا لم تعارض الاستدعاء للخدمة كبقية اخوتها، بل انساقت وراءه وارتدت البزة العسكرية ؟ لم يكلف احد ممن كتبوا التقارير عنها عناء البحث عن مسببات هذه الحالة، وهي بعيدة عن والدها العربي الذي يسكن في مدينة الطيبة بينما هي وأخوتها انتقلوا مع والدتهم للعيش في مدينة يهودية ليصارعوا الكراهية على مدار الساعة لمجرد اسمائهم العربية فقط”.

حين يفقد المرء سنده، سواء العائلة او المجتمع، وحين لا يجد لنفسه هوية ينتمي اليها، فلا بد ان يختلق لنفسه هوية كي يصد الاهانات التي يتعرض اليها وكي يثبت للآخرين انه ليس بهذا السوء الذي يتخيلونه ، وانه يشبههم تماما وانه يحلم ويفرح ويغضب كأي انسان عادي ولكي يثبت انه كالباقين في كل شيء، لن يتردد في الذهاب حتى النهاية كي يقنع الباقين انه يتمتع كباقي البشر بكل ما يتمتعون به فلا حق لهم ان يعتبرونه اقل منهم.

انه البحث عن الذات، كل على طريقته. فبينما وقف اشقاء ريما وشقيقتها بهامة مرفوعة ورفضوا الانخراط في الجيش، وجدت ريما في هذا خلاصا لها وفرصة في اقناع الآخرين انها مثلهم تماما، وأنهم يظلمونها فقط بسبب اسمها العربي.

ويقول الوالد: “قرأت ما كتبت عني الصحافة العبرية في سردها لحكاية ابنتي ريما، فصوروني انا العربي المتوحش الذي يطارد ابنته ليقتلها لأنها خدمت في الجيش. قدموني للقارئ اليهودي كعربي متخلف لا يزال يمارس وأد البنات لارتكابها أي خطأ، نسوا انها ابنتي ومهما صدر عنها ستبقى ابنتي. صحيح انها حاولت في البداية ان تخفي عني حقيقة انخراطها في الجيش، حفاظا على مشاعري، ظنا منها انني لن اعلم بهذا. ولكن الحقيقة بانت ولو متأخرة فلم يكن لها من بديل. كتبوا انها تزور الطيبة بين الحين والآخر متخفية بحجابها خشية ان تقتل، كتبوا انها فخورة بالخدمة العسكرية وان المشكلة تكمن في والدها وليست فيها. ارادوا القول ان شبابنا على استعداد للانخراط في الخدمة العسكرية لولا اهاليهم ذوي العقول المتحجرة. لم يذكروا ان ريما ترعرعت في أجواء الوسط اليهودي وأنها لم تكن على قدر كاف من الوعي كأخوتها لترفض استدعاءها للخدمة، بل رأت في الخدمة نجدة للمأزق الذي حشرها فيه محيطها الجديد الذي يفيض بالكراهية القومية”.

لا يخفى على كل متابع للصحافة العبرية، الانتقائية في طرح المواضيع وتسليط الاضواء على جوانب قد لا تميز المجتمع العربي الفلسطيني في البلاد. فنجد هذه الصحافة تستل الحكايات المغموسة بكثير من التشويق حتى ولو كان ذلك على حساب الحقيقة وملابساتها، لأن تقريرا كهذا يضيف قطعة جديدة على مركبات صورة العربي التي ترسمها الصحافة العبرية له في مخيلة المواطن اليهودي. والرسالة هنا واضحة: القاء اللائمة في رفض الخدمة بكل اشكالها على الاهالي وليس على الشبان انفسهم، وخير مثال على ذلك هي ريما البعيدة عن ابيها وعن تأثيره فانظروا كيف انخرطت في الخدمة العسكرية على الفور. كيف لهذه الصحافة وللمجتمع برمته ان يرى برفض الخدمة العسكرية في اوساط المتدينات اليهوديات امرا طبيعيا بينما تبحث ذات الصحافة عن اكبر قدر من الاثارة في ضائقة نفسية لصبية عربية.

ويقول الوالد في نهاية حوارنا معه: “لقد انهت ريما عامين من الخدمة العسكرية في حرس الحدود، ورغم كل ما اغضبني في هذا التصرف إلا انني سأبقى والدها وهي ستبقى ابنتي وهي تزورني في الطيبة بين الحين والآخر وكثيرا ما اصطحبها معي في نزهات خارج الطيبة فهي تحب زيارة مدينة نابلس دائما وأحاول تعويضها ما كانت تبحث عنه وما دفعها للبحث عنه في شخصية جماعية كالجيش. لا ألتمس الاعذار لها، فقد ارتكبت خطأ فادحا ومثل هذه الأخطاء لا يمكن تعديلها بقرار تتخذه في اليوم التالي، لأن المنظومة هنا في غاية الصرامة. ولكن يمكن تصحيح المسار بكثير من الحكمة مع الايام”.

نعتبر خدمة ريما في الجيش ثغرة واسعة في السور الجماهيري الذي يتصدى للخدمة المدنية التي يحاولون فرضها علينا، وما الضجة الاعلامية الحالية سوى محاولة ترويج للخدمة على انها ليست بهذا السواد وان هناك من اقدم عليها بمحض ارادته. هكذا قدموا لنا فتاة من قلنسوة تتباهي بانخراطها في سلك الشرطة وها هي ريما تتصدر العناوين سواء كانت فخورة او خجلة مما فعلت !

Exit mobile version