كلمة حرة

قصة قصيرة: “الرصيف” – تأليف د. أفنان القاسم

كنت أقضي نهاري، وأنا أقف من وراء النافذة، فليس لدي ما أفعل غير اغتيال أيامي الأخيرة من عمري الضائع، عمر كابوسيّ من كلمات مُجَهِّضة، وعبارات مُنَفِّرة، واستعارات مثيرة لقرف وغثيان كل ذواق للعسل الغائطي. عسل غائطي من الصنف الفاخر، لكنه يظل عسلاً ابن مومس.

1

تخيله يسيل بين ثديي فاتنة من فاتنات “الجِت سِت”، وأنت تلعق كل ذلك الغائط اللذيذ، أو وهو يبقبق بين فخذين حائضتين، وأنت تدفن رأسك بينهما. عسل ودم وبول وغائط من أجل العقل، من إيديولوجيا أوسخ ما في روح الإنسان كانت كتاباتي، إيديولوجيا المتعة الماخورية، والتقوى الشيطانية، والمضاجعة الربانية. إيديولوجيا بيغالية وإيليزية ومجارية.

بورنوغرافيا الحرية الفردية. إسهال صراحة اللسان. سهولة القلم السيال. دعارة الكلمات. الصرخات. الآهات. لهذا، وأنا أداوم على الوقوف من وراء النافذة، لم أكن أبحث عن زمني الضائع، البحث عن الزمن الضائع للبلهاء فقط والتعساء والمأفونين. فَلْيَضِعْ. زمني الضائع، فَلْيَضِعْ. أن يضيع زمني الضائع أهم رغبة من رغباتي الأخيرة، فليس لدي ما أفعل به. إلى الجحيم زمني الضائع. زمني الضائع إلى الجحيم، فهو زمن كابوسيّ لا غير. وربما من هذه الناحية هو أجمل زمن، زمن بودليري هو، بما أنه زمنٌ من كلمات مُجَهِّضة، وعبارات مُنَفِّرة، واستعارات مثيرة للقرف والغثيان، من لُجِّ كلِّ شيءٍ متعارض، متعارك، متعاهر، مثقل بقيمه المجانية. لن يكون أحسن من زمني القادم، زمني الضائع. زمن لن يعود. زمن لن ينعكس. لن يكون أحسن من زمني الضائع، زمني القادم. زمن يعود. زمن ينعكس. كالوهم. لهذا كانت أعمارنا أوهامًا. نحن لا نعيش أعمارنا بل أوهام أعمارنا. أوهام حقيقية هي أعمارنا. أوهام أخيرة، فلا بدايات لها ولا نهايات. كالكسوف. كالخسوف. كمرايا النفوس. المعتمة. كاللُّج الأسود. كاللُّج الأبيض. كاللُّج الأخرأ. كاللُّج. فقط كاللُّج. لهذا كان اللُّج أسود وأبيض. لونا البحر الأخرأ. أسود وأبيض. لونا الزمن في حركتيه اللواطيتين، إلى المطلق وإلى العدم. إلى الجحيم وإلى الجحيم. كالوهم. لهذا كان اللُّج أسود وأبيض بلوني الوهم الأخرأ. بلوني الجحيم.

وذاك الشاب الذي يجلس على حافة الرصيف قرب محطة الباصات لم يكن وهمًا، كان يجلس على حافة الرصيف، وينظر من حوله. كان كل الحقيقة. كان كل الحقيقة قبل أن تغدو وهمًا أخرأ. كان يجلس على الرصيف، وينظر إلى هذا وإلى ذاك، إلى هذه وإلى تلك، كان ينظر إلى العابرين، وإلى لا شيء كان ينظر، كان ينظر، فقط، كبطل من أبطالي الوهميين الخرائيين، ولم يكن وهمًا. كان كل الحقيقة. كان كل الحقيقة قبل أن تغدو وهمًا أخرأ. كان ينظر إلى هذا وإلى ذاك، وإلى هذه وإلى تلك، وكان يبدو عليه أنه لا ينظر إلى أحد. كان يجلس هناك على حافة الرصيف في الوجه المقابل دون أن يبدي حراكًا، لم يكن يحرك سوى رأسه، فكأنه معلق بفرج أمه، وكان ينظر إلى العابرين، وإلى لا شيء. في الفراغ كان ينظر، حتى وهو ينظر إلى العابرين، كان ينظر في الفراغ، وكأنه لا يرى أحدًا، لا يرى شيئًا، لا يرى، لا يحس، لا يشم، لا يفكر، لا يحلم، لا يأمل، لا ينتظر، لا يتوقع، لا يريد أن يتوقع، كالحجر، كالخشب، كالشيء، لا يرى شيئًا، لا يرى أحدًا. كان يبدو كمن يعود إلى سطور كتاباتي الخرقاء، ليكون فيها استعارة مثيرة للقرف والغثيان، ولم يكن يفلح في ذلك، لأنه كان كل حضوره على حافة الرصيف، كل الوهم الأخرأ الحقيقي كان، مما أثار حنقي، كل حنقي، بسبب العجز الذي فهمت عبره أنه كان صفة لكتاباتي الخرقاء. عجز أخرأ، واستسلام أخرأ، وعواء أخرأ. رحت أشتم بأعلى صوتي، وبعض العابرين يرفعون رؤوسهم إليّ، ويبتسمون. اعتقدوا أنني مجنون، وأنني أشتم لأنني كنت مجنونًا، وهم لهذا، رفعوا رؤوسهم إليّ، وابتسموا. جاءوا من ورائي، وهم يبتسمون، فتحجرت الشتائم في حلقي. تقدموا مني، وهم يبتسمون، فتراجعت بنصفي العلوي، وكدت أسقط من النافذة. مدوا أيديهم، وهم يبتسمون، وأرادوا دفعي، فأخذت أصرخ من الرعب. لم يكن أحد في حجرتي، فاعتدلت، وأنا لا أتوقف عن اللُّهاث رعبًا. والشاب هناك، في الطرف المقابل، على حافة الرصيف كان يجلس، وكان يلتفت يمنة، ويلتفت يسرة، ويتابع بعينيه هذا أو ذاك، هذه أو تلك. لم يكن ينظر إلى السيارات، كانت السيارات تمضي به دون أن ينظر إليها. كان ينظر إلى العابرين، إلى هذا أو ذاك، وإلى هذه أو تلك، وكان لا يبالي بالسيارات التي تمضي به، ولا بمنبهاتها، ولا ببعضها التي تتوقف، لينزل منها هذا أو لتنزل منها هذه إلا بعد أن يصعد هذا أو تصعد هذه على الرصيف، وتكاد تمشي على أصابعه التي نسيها إلى جانبه. تحرك المنتظرون في المحطة، وما لبث الباص أن وصل، وغطاهم والشاب عني، فلم أعد أراه. تخيلته كما أتخيل شخصياتي الوهمية الخرائية، وهو يرفع قدميه لئلا يدوسهما الباص بعجلاته، وما لبث الباص أن غادر، والنازلون منه ما لبثوا أن غادروا. عاد الشاب إلى جلسته كما كان على حافة الرصيف، وعدت أتابع نظراته إلى العابرين، وهو لا يبدو عليه الملل. كان ينظر إلى العابرين بلا ملل، والعابرون لا ينظرون إليه، وعلى وجوههم كل الملل. الشعور بالملل لمن له وقت، وهو لا وقت له. كان الشاب ينظر إليهم، وإلى الفراغ، وهم لا ينظرون إليه، ولا إلى الفراغ. كان الفراغ ممتلئًا بهم. بمللهم. لم يكن هناك فراغ بالنسبة لهم، فالفراغ كان ممتلئًا بهم. بمللهم. الشاب وحده من كان يراهم، ويرى الفراغ الممتلئ بهم، بمللهم، وكأنه كان يبحث عن ملء الصفحات البيضاء مثلي بالشخصيات، بملل الشخصيات، لكن عينيه ما امتلأتا بهم، وبقي هناك فراغ دومًا يبحث عن ملئه.

       جاءت شابة، واستندت بظهرها على عمود كهرباء خلف الشاب، فلم يولها الشاب اهتمامًا، وبقي ينظر إلى هذا أو ذاك، إلى هذه أو تلك. كان لا يبدو على الشابة أنها تنتظر أحدًا، وقفت هكذا، واستندت بظهرها على عمود الكهرباء. كانت لها قامة مشيقة، ورموش طويلة، وطلعة مليحة. نظرت إلى نهديها تحت بلوزتها المشدودة عليهما، وتأملت ساقيها تحت فستانها القصير. كانت لا تنظر إلى العابرين، أما الشاب، فلم يكن يتوقف عن النظر إلى العابرين. كانت تنظر إلى السيارات، وهي تمضي أو تتوقف أو تمضي من جديد، وكانت لا تنظر في الاتجاه الذي سيصل منه الباص. كانت تحمل حقيبة حمراء، ولم تكن تضع على شفتيها أحمر الشفاه أو أزرقها، كانت عابسة، وكانت جميلة لأنها عابسة. كالعذراء. كمريم العذراء. عابسة وجميلة. عابسة لأنها جميلة. جميلة لأنها جهمة مقطبة. والشاب لا يتوقف عن ملاحقة العابرين بنظراته، كان يعبر معهم بعينيه، والشابة لا تعيرهم أدنى اهتمام. كانت تنظر إلى خط السيارات التي لا تتوقف عن العبور، وكانت تنحني أحيانًا، وتبحث عن أحدهم داخل السيارات. والسيارات لم تكن لتتوقف، كانت بعضها تتوقف للحظات، الوقت الذي ينزل منها أحدهم، وفي اللحظة ذاتها تنطلق بعض المنبهات، والشابة عابسة، دومًا عابسة، جميلة، دومًا جميلة تهتك الأنظار. يبدو أن لا أحد يبحث عنها، وهي تبحث عن أحد لا تجده. رفع الشاب قدميه، في اللحظة التي تحرك فيها المنتظرون للباص، وما لبث الباص أن وصل، وحجب عن الشابة إحدى السيارات التي توقفت، والتي نزلت منها شابة محجبة كانت تسوقها. تركت الشابة المحجبة باب سيارتها مفتوحًا، وسارعت على منبهات السيارات الأخرى الغاضبة إلى سحب الشابة ذات الفستان القصير من يدها. طبعت على ثغرها قبلة قبل أن تُركبها إلى جانبها، وانطلقت بها، وهي تكاد تضرب مقدمة الباص في اللحظة التي أقلع فيها. حدثت ضجة لم تؤثر في الشاب، فما أن ذهب الباص حتى عاد إلى وضعه الأول، وعاد إلى ملاحقة العابرين بنظراته، إلى ملاحقتهم بنظراته، إلى ملاحقتهم بنظراته، إلى ملاحقتهم بنظراته، إلى ملاحقتهم إلى الأبد بنظراته. إلى ملاحقتهم، إلى ملاحقتهم، إلى ملاحقتهم…

       جاء شاب آخر، واستند بظهره على عمود الكهرباء، وراح ينظر مع الشاب أينما ينظر، لكن لم يدم الأمر طويلاً. حضر رجل ملتح في الخمسين، وذهب به إلى المطعم الواقع على الرصيف نفسه، وراء الشاب. لن يتأخر الباص كثيرًا، قالت الأم لابنها، ابن الثالثة عشرة، وهي تنظر إلى ساعتها، فجلس هذا إلى جانب الشاب، وأخرج من جيبه لوحة، وبدأ يلعب بها، والأم تعيد القول: لن يتأخر الباص كثيرًا. طيب، يا ماما، قال الولد، وهو يلعب بلوحته. قلت لك لن يتأخر الباص كثيرًا، أعادت الأم القول للمرة الثالثة. اللعنة، جدف الولد، وهو يواصل اللعب بلوحته، قلت لك طيب، يا ماما. لوحتك، ليس هذا وقته الآن، همهمت الأم بعتاب، والولد مندمج في اللعب. ليس هذا وقته الآن، عادت الأم إلى الهمهمة بعتاب. هل تسمعني؟ أسمعك، همهم الابن. ليس هذا وقته الآن، قالت الأم من جديد. لم يحن موعد وصول الباص بعد، قال الولد. لن يتأخر الباص عن الوصول، قالت الأم على صيحات الابن: اللعنة! اللعنة! لن يتأخر الباص عن الوصول كثيرًا، قالت الأم، والابن لم يزل يجدف: اللعنة! اللعنة! اللعنة! خسرت اللعبة بسببك، يا ماما! هذا لأنك لم تسمع لي، رمت الأم. أنت تخريني، يا ماما، رمى الولد. انهض، أمرت الأم، وهي تجذب ابنها من ذراعه. سيصل الباص بين لحظة وأخرى. لكنه دفعها، وأسقطها أرضًا. كُفّي عن تخريتي، يا ماما، نبر الولد. إنها لا تكف عن تخريتي، رمى الولد باتجاه الشاب الذي لم يكن يعير الأم والابن أدنى انتباه. في المرة القادمة، سألقي بك تحت عجلات الباص، يا ماما، همهم الابن بينما أحد المنتظرين راح يعين الأم على الوقوف. يا ماما، يا ماما، في المرة القادمة… هكذا أرتاح منك ومن لوحتك، همهمت الأم دون أن يبالي الابن بما تقول، بعد أن عاد إلى لعب دور آخر، وهو يواصل الهمهمة: في المرة القادمة… هل تسمعني؟ نبرت الأم. أسمعك، أجاب الولد، وهو غائب مع لوحته. سألتك هل تسمعني؟ عادت الأم تنبر. اللعنة، يا ماما، جدف الابن، قلت لك أسمعك، أسمعك، هل أنت طرشاء أم ماذا، يا ماما؟ قلت لك أسمعك، يا دين الكلب! العالم كله سمعني، وأنا أقول لك أسمعك، ردد الولد بعنف، وهو ينظر إلى الشاب الذي يبدو أنه لا يسمع شيئًا، ولا يفعل سوى متابعة العابرين بنظراته. يا ماما، يا ماما… في تلك اللحظة، رن جرس هاتف محمول، فعجلت المرأة إلى البحث في حقيبتها دون فائدة من الوقوع على هاتفها. يا دين الكلب! همهمت الأم. أخذ الابن يطلق النار على أمه في اللوحة، وقد غدت وحشًا آليًا مرعبًا، دون أن يتمكن من إصابتها، وهذه تواصل البحث عن هاتفها المحمول في حقيبتها، والهاتف المحمول لا يتوقف عن الرنين. يا دين الكلب! يا دين الكلب! والابن يداوم على إطلاق النار على أمه الوحشة الآلية في اللوحة دون أن يتمكن من قتلها. يا دين الكلب! يا دين الكلب! يا دين الكلب! ثم تمكن من إصابتها، في بطنها، وفي صدرها، وفي رأسها، فجر مخها، فابتسم الابن من شدة الجزل والحبور عليها، وهو يفجرها من مخها، ونظر إلى الأخرى، الحقيقية، ممتعضًا، بينما الهاتف المحمول لا يتوقف عن الرنين. يا دين الكلب! يا دين الكلب! يا دين الكلب! عادت الأم إلى الهمهمة. إنها المكالمة التي تنتظرينها منذ أمس، يا ماما، قال الولد، وهو يصرف أسنانه، والأم لا تتوقف عن الهمهمة: يا دين الكلب! يا دين الكلب! يا دين الكلب! وفي الأخير، تمكنت من إخراج هاتفها المحمول، وعجلت إلى القول: آلو! لكن الهاتف المحمول لم يتوقف عن الرنين. كان هاتف محمول الشاب، فدارت الأم برأسها إليه، وكذلك فعل الابن، والشاب يبدو غائبًا عن كل شيء، لا يفعل سوى متابعة العابرين بعينيه المفرغتين. فجأة، تحرك المنتظرون ليأخذوا الباص الذي ما لبث أن وصل، فرفع الشاب قدميه، بينما وقف الولد، ودفع أمه من أمامه لأجل الصعود في الباص، والأم لا تتوقف عن الشخوص ببصرها إلى الشاب.

       خرجت ثلاث شابات من علبة ليل محاذية للمطعم، وهن يغالبن الضحك، ورحن يدرن من حول العمود، وكل منهن تهرب من الأخرى. كانت كل منهن تريد الإمساك بالأخرى، دون أن تفلح، فتكركر، وتحاول من جديد، وتكركر، وتحاول من جديد، وتكركر، وتحاول من جديد، وتكركر، وتحاول من جديد، وتكرر، ومن جديد، ومن جديد، ومن جديد… تعثرت إحداهن، وسقطت على ظهر الشاب، وهي تعتذر، والشاب لا يعيرها أدنى اهتمام. حير سلوكه الفتيات الثلاث، وهن يشرن إلى بعضهن متسائلات، ثم ما لبثن أن انفجرن ضاحكات، وعدن إلى الركض من وراء بعضهن، وكل منهن تهرب من الأخرى، كل منهن تريد الإمساك بالأخرى، وكلهن يكركرن، يكركرن، يكركرن… كالحور كن يهربن من بعضهن، وهن يكركرن، وكأنهن يسكن أرض النعيم. كن من الجمال ما يقهر أي مؤمن، وكانت كركراتهن تدغدغ المتقين في أجسادهم، فينتصبون، وهم عاجزون عن إشباع رغباتهم. كن يكركرن، ويصرخن، وكانت أصواتهن تثقب الآذان، وتفجر الوجود، ولا تُبقي أصواتهن غير اللعنة. اللعنة على الباص، يا ماما! اللعنة على العالم! اللعنة أجمل شيء في الوجود، وهن يصرخن، ويكركرن، وينقلن أجساد الحور التي لهن إلى كل مكان، من أجل القمع والاستبداد وإرساء دعائم حضارة قانون العنف الأروع وعالم الشيزوفرينيا الأبدع الذي هو عالم أرض الجحيم. قرع جرس الهاتف المحمول لإحداهن قرعة واحدة، فتوقفت هذه عن الركض، والشابتان الأخريان تسقطان عليها، وهما تبذلان أقصى كركراتهما. قرأت الشابة صاحبة الهاتف المحمول الرسالة، وجمجمت: يا دين الكلب! ماذا؟ صاحت الأخريان. إنها الخرية الصغيرة! أوضحت الشابة. أمك؟ إنها الخرية الصغيرة، قلت لكما. وماذا تريد؟ ماذا تريد؟ ماذا تريد في رأيكما؟ لن نتركك تعودين إلى البيت. وهل تظنانني مجنونة؟ خرية صغيرة! خرية صغيرة! لا تجيبيها. خرية صغيرة! خرية صغيرة! خرية صغيرة! ماذا؟ تقول إنها انتظرتني طوال الليل، وإنها ستأتي للبحث عني إذا لم أعد في الحال. إنها خرية صغيرة بالفعل، أمك! خرية كبيرة! إنها خرية كبيرة بالفعل، أمك! خرية كبيرة! خرية كبيرة! وعادت ثلاثتهن إلى الركض من حول العمود، وهن يتكركرن، ويتصايحن، والشاب الجالس على الرصيف لا يشعر بوجودهن. دوت صيحة حادة جمدت الشابات الثلاث على سماعها، وما لبث الشاب الذي رافق الملتحي إلى المطعم أن خرج، وهو يقبض على موسى بيد، وعلى ذقن الملتحي بيد، والدم يسيل منهما. صرخت الشابات الثلاث من الرعب، وحاولن الهرب، إلا أنهن اصطدمن بالشاب المجرم، وعرقلن خطته. تجمع الناس، وضيقوا الخناق عليه. أخذت الشابات الثلاث يبكين، فهطل المطر في أرض النعيم، وملأ الأنهار بالملح. تلك التفاحة، ما أمر طعمها، همهمت إحدى الشابات، وهي تذرف مر الدمع. التفاحة؟ سألت الثانية باستغراب، ولما فهمت، أخذت تذرف هي الأخرى مر الدمع. التفاحة! التفاحة! رددت الفتاة التي طلبت أمها منها العودة إلى البيت، ولم يترك الشاب المجرم لها أقل وقت لتذرف مر الدمع. هددها بموساه، ودخل بها إلى المطعم ثانية. سمع الكل نفير سيارات الشرطة، لكن الناس فضلوا أخذ الباص الذي ما لبث أن وصل، أو الذهاب إلى حيث كانوا يريدون الذهاب، والشاب الجالس على حافة الرصيف ينظر من حوله، وكأنه لا ينظر إلى أحد، لا ينظر إلى شيء. بدا وحيدًا، بعيدًا، منعزلاً، أخرأَ، يجلس على طرف العالم، جزءًا من الفراغ، من السديم، من الجحيم.

       تلقفت الفتاتان ضابط الشرطة، وهما تذرفان مر الدمع، وتقولان إن القاتل أخذ صديقتهما رهينة. هل أنتما أوريلي لامور؟ سألهما الضابط بخشونة. أوريلي لامور؟ تساءلت الشابتان حائرتين. لستما أوريلي لامور؟ عاد الضابط يسأل بخشونة. أمام علامات النفي التي بدت على محيا الشابتين، أمر الضابط بإركابهما في عربة المعتقلين، وإخلاء المكان، لكن الشاب الجالس دومًا هناك ظل يجلس هناك. أوريلي لامور، صاح الضابط. أوريلي مؤخرتي، عاد الضابط يصيح. أريد أن تجد لي أوريلي مؤخرتي في الحال، قال الضابط لمعاونه. ذاك الزبدة يرفض القيام، قال المعاون للضابط. كن مؤدبًا، وقل العربي، انتهره الضابط. العربي، همهم المعاون. ما له؟ يرفض القيام. يرفض القيام من أين؟ من هناك. أنا لا أرى أي عربي هناك. أريد القول الزنجي، همهم المعاون مرتبكًا. كن مؤدبًا، وقل الإفريقي، قل الأسود، انتهره الضابط. الأسود، همهم المعاون. ما له؟ يرفض القيام. يرفض القيام من أين؟ من هناك. أنا لا أرى أي أسود هناك. أريد القول الماوتسي تونغي، همهم المعاون مرتبكًا. كن مؤدبًا، وقل الصيني، انتهره الضابط. الصيني، همهم المعاون. ما له؟ يرفض القيام. يرفض القيام من أين؟ من هناك. أنا لا أرى أي صيني هناك. أريد القول الروجيه، همهم المعاون مرتبكًا. كن مؤدبًا، وقل الأحمر، انتهره الضابط. الأحمر، همهم المعاون. ما له؟ يرفض القيام. يرفض القيام من أين؟ من هناك. أنا لا أرى أي أحمر هناك. أريد القول البلانش نيجي، همهم المعاون مرتبكًا. كن مؤدبًا، وقل الأبيض، انتهره الضابط. الأبيض، همهم المعاون. ما له؟ يرفض القيام. يرفض القيام من أين؟ من هناك. أنا لا أرى أي أبيض هناك، أنا لا أرى أحدًا. طوقوا المكان جيدًا، صاح الضابط بأعوانه، أريدكم أن تجدوا لي أوريلي لامور في الحال، والمعاون يكاد ينسحق من شدة الاستغراب والارتياب. يا للرعب! سمعه الضابط يهمهم. ماذا؟ طلب الضابط. أن لا ترى كل هؤلاء شيء أما أن يكونوا، كل هؤلاء، شخصًا واحدًا، همهم المعاون. لا يوجد هذا إلا في الأحلام، رمى الضابط بهزء. هل الأحلام مرعبة إلى هذه الدرجة؟ تساءل المعاون غير مصدق، وفي اللحظة ذاتها، سمع الكل صرير عجلات إحدى السيارات. كانت السيارة التي تسوقها الشابة المحجبة، وفي قلب الشارع كان الشاب الذي يجلس على حافة الرصيف طريحًا، وهو يغرق في دمه، وجَمْعٌ من الهارعين من حوله، وهم يكادون يسقطون بوجوههم المبتسمة عليه. كانت تند عنه اختلاجات الموت، فأخرجت الشابة المحجبة ثديها، وألقمته إياه، إلى أن مات بالفعل. قرع الهاتف المحمول للشاب القتيل، فبحثت الشابة المحجبة عنه في جيوبه إلى أن وجدته. آلو، قالت الشابة المحجبة. نعم، لقد مات، أضافت قبل أن تغلق الهاتف المحمول، وتعيده إلى جيب الشاب القتيل. خفت الشابة التي صعدت مع المرأة المحجبة إلى ترك السيارة، والتسلل عائدة إلى مكانها قرب العمود.

       في عربة المعتقلين، أخذ المقبوض عليهم يتحرشون بالشابتين، ولا أحد من رجال الشرطة يبالي بنداءاتهما. لماذا قضمتِها، التفاحة؟ سألت إحدى الشابتين الأخرى معاتبة. لم أكن أعلم أن تفاح الجنة مر، أجابت الفتاة الثانية. أية جنة، أيتها البلهاء؟ الجنة. علبة الليل؟ الجنة، خراء، الجنة! وكل هؤلاء الأوباش، هل هم الملائكة؟ إنهم خراء الله! والآن ماذا سنفعل بكل خراء الله هذا؟ نحن لن نقدر عليهم. ماذا سنفعل؟ اغمضي عينيك، واتركيهم، لكل امرئ صلاته. تسمين هذا صلاة؟ اغتصبهما الخارجون على الدين بينما أخذ الشاب المجرم يهدد بقتل الشابة الثالثة إذا حاول الضابط اقتحام المطعم. الشابة التي ترتكز على العمود، هل هي أوريلي لامور؟ سأل الضابط المعاون. الشابة التي ترتكز على العمود؟ تلعثم المعاون. اسألها إذا كانت أوريلي لامور، طلب الضابط. أنا لا أرى أية فتاة، تلعثم المعاون من جديد. أنت تخريني، نبر الضابط، أنت أحمق، أنت مجاز ليومين، فافرنقع في الحال، وإلا… أردت فقط… قلت افرنقع في الحال، يا دين الكلب! أردت فقط… ولا كلمة، افرنقع في الحال، يا دين الكلب! وأعطاه الضابط ظهره. أردت فقط… اختفى الضابط، والمعاون يقترب من العمود غير مصدق ما يجري: كان خنزير آلي يشد العمود المربوط به، وهو يسعى إلى الفكاك دون أن يفلح. كان يطلق صرخات هستيرية، ويكشف أسنانه المنشارية، ويشد، ويسعى إلى الفكاك حتى تمكن من زحزحة العمود، وإسقاطه على وقاء المحطة، فقتل من المنتظرين من قتل، ثم أفلت. التقم بأسنانه المنشارية المعاون، والمعاون ينظر إلى نفسه بين الأسنان الوحشية للخنزير الآلي، ويتابع برعب ما يجري له. أنت لم تزل هنا؟ صاح الضابط بالمعاون. قلت افرنقع في الحال، يا دين الكلب! حمل المعاون رأسه بين يديه، ثم أدار ظهره، وأخذ يركض، وهو يلتفت بين فترة وأخرى إلى نفسه الممزقة بين الأسنان المنشارية للخنزير الآلي. وصل فريق من حفاري خطوط الهاتف الليفية، وبدأوا بأدواتهم الكهربائية واليدوية، معقوفة مشقوقة، مدببة مسطحة، ملولبة مشعبة، يحفرون دون أن يأخذوا إذنًا من أحد. من أنتم، يا دين الكلب؟ صاح الضابط بالعمال دون أن يجيبه أحد منهم، فراح يشد شعره. قل لهم أن يحفروا تحت المطعم، اقترح شرطي. أنت لم أطلب رأيك! قل لهم أن يفتحوا نفقًا نتسلل منه إلى المطعم. نتسلل منه إلى قفاي! قذف الضابط، وصاح بأعلى صوته: أوريلي لامور! قل لهم… أنت لم أطلب رأيك، قلت لك… قل لهم… أتظنني أهوج إلى هذه الدرجة، أن يفتحوا نفقًا نتسلل منه… إنها الطريقة الوحيدة… أنت لم أطلب رأيك، يا دين الكلب، قلت لك، نبر الضابط، وهو يدفعه. التسلل منه إلى قفاي، همهم الضابط لنفسه قبل أن يصرخ في الميكروفون: أوريلي لامور! صاح الشاب المجرم من داخل المطعم: أوريلي قفاي! عاد الضابط يصرخ في الميكروفون: إذا لم تسلم نفسك اقتحمنا المكان. وفي اللحظة ذاتها، كان العمال على وشك أن يهدموا العمود على الشابة، فسارع الضابط إلى إنقاذها. أوريلي لامور، ليس جميلاً أن تُقتل فتاة مثلك، يا دين الكلب، همهم الضابط في أذن الفتاة. ابتسمت الفتاة، وأشارت إلى الناحية التي كان يجلس فيها الشاب: وذاك الذي يجلس هناك، ألا تفعل من أجله شيئًا؟ سقط العمود على الشاب، وسحقه، بينما الضابط يردد: يا دين الكلب! يا دين الكلب! عاد يصرخ في الميكروفون: إذا لم تسلم نفسك، يا دين الكلب، اقتحمنا المكان. سأقتل الرهينة. اقتلها، يا دين الكلب! والله سأقتلها، سأذبحها كما ذبحت القذر “حيّ على الصلاة”. سأعد من واحد إلى عشرة. سأذبحها، والله. واحد، اثنان، ثلاثة… سأذبحها، سأذبحها، والله. أربعة، خمسة، ستة، سبعة… سأذبحها، سأذبحها، سأذبحها، والله. والرهينة تصرخ: النجدة. ماما. ثمانية، تسعة… ماما… عشرة… ما… انفتحت سرة الضابط كمهبل، ومن البصاق والصمغ وخراء الملائكة راح ينبثق رأس ذئب آلي ثم رأسان ثم ثلاثة، وفوقها مثل تحتها رأسٌ، فرأسان، وفوق الرأسين مثل تحت الرأسين الآخرين رأسٌ واحد. وشيئًا فشيئًا، أخذ جسد الذئب ذي الرؤوس التسعة يزلق من السرة، وما أن قفز كأبشع مخلوق فردوسي على وجه الأرض، فاتحًا أفواهه التسعة، ومن نواجذه يسيل مائع الظمأ والنهم والغِش والإفك والهيمنة والمذللة والمدعسة والمخرأة حتى تفجرت قنوات المجاري تحت ضربات العمال، وتفجر غائط البشر، فملأ الرصيف، وجرفت موجاته الشارع في اللحظة التي توقف فيها موكب من السيارات المزينة بباقات الورد، المدوية بأغاني الفرح. نزلت العروس بفستانها الأسود، فالعريس ببذلته البيضاء، فكل المدعوين، وهم يغطسون في الغائط حتى ركبهم. وفي منتهى الغبطة، اقتحموا المطعم، واحتلوا الطاولات، ثم قاموا وقعدوا، رقصوا وغنوا، طعموا وشربوا، وقضوا باقي النهار، وكل الليل، وهم يقومون ويقعدون، يرقصون ويغنون، يطعمون ويشربون، يقومون ويقعدون، يرقصون ويغنون، يطعمون ويشربون، يقومون ويقعدون، يرقصون ويغنون، يطعمون ويشربون، يطعمون ويشربون، يطعمون ويشربون، يطعمون ويشربون…

[email protected]

تعليق واحد

  1. الحقيقه قصه *** يحاول كاتبها ان يظهر مواهبه اللغويه باستعمال لغة المجاري والصرف الصحي واستعارات بورنوغرافيه تتخلى عن كل الوان الذوق والاحترام للقارئ. ام طريقة الكتابه فتذكر بالمقامات الممله، التي كتبت فقط ليظهر الحريري واشباهه انهم متمكنين من مفردات اللغه العربيه، وهكذا الامر هنا، كلمات ضخمه فواحه برائحة *** والفيتشسموس، بالفعل كدت ان اتقيء. حبذا لو اتحفنا الكاتب ذو الموهبه بقصص انظف ومكتوبه بصيغه تناسب عصرنا. سلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *