ألا نخجل من عجزنا امام نساء البلدة القديمة من الطيبة؟

بجوار “العِمري” الشهيرة في الطيبة، احد معالم البلدة القديمة، وامتدادا لكافة ازقة الطيبة القديمة، يجتمع في المساء الاهالي امام منازلهم، تحيطهم من كل جانب ابنية مهجورة تشهد على تاريخ المكان.

هنا الاطفال والصخب المنبعث تتقاذفه الجدران من كل الجهات فيحدث صدى لا ينقطع، هنا النساء تمارس الهمس، هذه تغتاب جارتها بلا حياء وتلك تستغفر ربها بسبحة مكية. هنا نلمس التاريخ باليدين، هنا يتجاور الموت مع الحياة، والماضي مع الحاضر، الاصيل مع المصطنع، هنا شرفة عصرية جميلة اضيفت الى بيت آيل للسقوط.

عندما يأتي المساء يصدح من هذه النافذة صوت وردة الجزائرية وعلى الجانب المقابل نعيق غراب فوق اطلال بيت مهدوم، هنا يجتمع الليل والنهار، هنا يتواعد الماضي مع الحاضر على طول طريق الآلام، هنا يتبدل التاريخ على جانبي زقاق ضيق.

في هذه البقعة من بلدنا لا يخجل “الازعر” بالجلوس تحت شرفتك يعد وجبته من الدوخة والنسيان، في هذه الازقة يتبول الظلام روائح الغرباء. هنا بقايا نافورة شيدت من احجار “جماعين”، وهنا نبتة ازهرت فوق جدران غرفة بقيت بلا سقف.

وما بين جمال يصارع الزمن، واناس مسنين متشبثين بجذورهم الغائرة في اعماق هذا المكان، تتساقط ظلال بناية “العليا” الطاعنة في السن لتذكر الجميع بأن القدرة على التحمل منبعها الايمان بغد افضل.

وفاء الطيباويين لهذا المكان يحمي الماضي ويعاند الهجرة رغم اليأس المحيط بهم من كل جانب. لم يبق من الحياة هنا سوى بساطتها وبدائيتها، هنا يعز كل شيء، الشوارع ضيقة والرطوبة تمضغ الجدران وأبنية تجري من حولها المجاري. أطفال الحي على قلة عددهم يلهون بين شقائق الخطر. هنا كلمة حديقة ترد فقط في سياق حكايات الاساطير. هنا إذا جرؤ احدهم على ذكر كلمة “نادي”، يردد الباقون خلفه “لا حول ولا قوة الله بالله”، وكأن المتحدث اصابه مس من الهذيان.

في هذه الاجواء، وبينما يتلاشى الحلم وينطفئ الامل وتزداد اعداد الباحثين عن خفية في الظلام يمارسون فيها ما حرمه الله ونبذته الاخلاق، نهضت نسوة لتقول للجميع “كفى !… هيا نغير هذا الحال !”

جاءت الفكرة خلال جلسة نسائية مع فنجان من القهوة بدون نميمة، استمعت لحوارهن وتنقلت في جنبات آلامهن وطفت في ارجاء افكارهن وحاولت الامساك بطرف حلمهن. فكان اول ما تبين لي منه واقع يعيشه الناس في بقاع أخرى من هذا العالم. نعم ان ما يعتبر حلما هنا يعيشه واقعا بشر مثلنا في مكان آخر من هذا العالم. تنظيف الشوارع وإصلاح البنية التحتية أي التخلص من انهار المياه الوقحة للصرف الصحي.

النسوة هنا لا يطلبن ما لم يشاهدنه في مكان آخر، طلباتهن من التواضع ما يثير خجلنا. أطر مناسبة للأطفال، إقامة حديقة بسيطة زهيدة الثمن لاولادهن واحفادهن، بديلة للشارع والزقاق، أي رفع القمامة من الساحات بين البيوت المهجورة لتتحول الى حديقة.

كلما كان الانسان معدوما كلما كانت احلامه اعظم، ولكن نسوة هذا الحي يخرجن عن هذه القاعدة، فهن لا يطمعن بما هو خيالي، ولا يطالبن بأمور شخصية. انها مصلحة عامة، بذرتها  الاولى كانت الحلم الصغير الجريء. ما المانع امام اقامة سوق شعبية متواضعة في ازقة الطيبة القديمة يتجول فيها زوار الحي ويشترون ما صنعت ايادي هذه النسوة من اشغال يدوية فلكلورية !!

لماذ تحرم نساء هذا الحي من مكان يجلسن فيه ككل نساء العالم المتحضر وليكن ناديا او مقهى او “زاوية” او “حوزة” ان شئتم، على ان يكون لائقا تجتمع فيه النسوة بدل التبعثر في جيل لا يحتمل الوحدة ولا الانزواء ولا النسيان أو الابتعاد. المسنون هم اكثر الناس حاجة للاختلاط بالآخرين بصورة متواصلة. فلا افضل من فكرة انشاء مركز يضم عدة مرافق، مكتبة ومتجر صغير ومقهى او ما شابه، وحديقة بجواره فيها ركن للصغار، غالبا هم من الاحفاد، فيها الأراجيح والألعاب بعيدا عن ضجيج الشوارع وخطر حركة السير.

في هذا الحي الطيباوي لم تعد تكتفي المرأة بما “يمن” عليها الدهر من متاعب، بل تأبطت مسؤولية تحقيق جودة العيش لنفسها ولمن حولها. فهل من رجل، ممن يجلسون في ارائك المسئولية، فيه من النخوة والشجاعة والشهامة ما يكفي ليقول “بلى” لهذه الافكار ؟

Exit mobile version