3كلمة حرة

انتخابات الكنيست هل من مفاجأة؟ – بقلم: جواد بولس

 لم تحمل نتائج انتخابات الكنيست الإسرائيلية أية مفاجآت غير متوقعة أو شاذة في جوهرها؛ وهي بهذا المعنى قد شكّلت محطة جديدة، لن يتوقف عندها قطار الفاشية الإسرائيلية المندفع بجنون واضح نحو الهاوية؛ كما وأنها  عكست حجم الضياع المستفحل بين المواطنين العرب وهم يواجهون مرحلة سياسية واجتماعية واقتصادية انتقالية جديدة نحو مستقبل مبهم. ومن جهة أخرى عرّت حقيقة وجود التنافر العميق، أو حتى التنابذ، بين هويّات معظم الأحزاب والحركات السياسية العربية التي طلبت ودّ تلك الجماهير ودعمها في الانتخابات، وبين مجمل التغييرات الفكرية والنفسية والهويّاتية التي باتت تحرّك فعليًا ولاءات الناس وتتحكم في سلوكهم الاجتماعي وفي خياراتهم السياسية.

جواد بولس
جواد بولس

من غير المجدي أن نفعل ما يفعل البعض حين يؤكدون للقراء أنهم أصابوا عندما تنبأوا بالذي سوف يحصل ؛ ولن أتعاطى، في هذه المقالة، مع المخاطر الجسيمة التي تنذر بها  تشكيلة الحكومة المتوقعة وما سيتبعها، بدون شك، من تداعيات كارثية علينا كأقلية قومية، ستواجه، من غير سواتر ، أنياب الفاشيين الذين سيخيّرونا بين الاذعان الكامل لدولتهم اليهودية، ونحن صاغرون، أو المقاومة على ما يعنيه هذا الخيار من احتمالات، قد تكون خرقاء ورهانات على وفاء الريح وجنون القدر.

لن أناقش مَن حسم بصرامة بأنّ تفكيك القائمة المشتركة كان أهم سبب وراء عزوف نصف المواطنين العرب وقرارهم مقاطعة الانتخابات ؛ ولن أوافق من اتهم النائب الطيبي بحصول تلك الكارثة ، أو من أدّعى بأن د. منصور عباس كان  مسببها ومسؤولًا عن وقوعها؛ وذلك، ببساطة، لأنني لم أر بالقائمة المشتركة،  بخلاف فكرة الوحدة السياسية والعمل المشترك السليم ، منقذًا للجماهير من الغرق الوشيك ولا بوصلة آمنة وكفيلة بتوجيهنا نحو مرفأ السلامة وبر الأحلام.

ومن ذات المنطلق لن أعاتب من دعوا إلى مقاطعة الانتخابات، سواء فعلوا ذلك عن قناعة فكرية أو عن ايمان ديني، أو نتيجة احتجاج وغضب، أو حتى اذا كانت نواياهم مريضة أو مغرضة ؛ فالمشكلة، برأيي، ليست بمن دعا وحرّض واستشاط وانفعل، بل لماذا نجح هؤلاء وفشلت الأحزاب، قيادات وهيئات، باقناع من قاطعوا، وحضّهم على التصويت والتأثير والمشاركة في ترسيم الحاضر وصنع المستقبل.

عشرون عامًا يقود “بنيامين” شعبه ويعيده إلى أحضان “إيله”. يعلمهم فقه الذبائح ومعنى تقديم القرابين ويعدهم بالمجد وبالخلاص ؛ يسير كالفاتحين ووراءه يهرول أبناء “يوشع” ويتنشقون روائح الفاشية وغبار المعارك ويحلقون على أجنحة شهواتهم صوب حدود سرمدية تغور في صحاري شرق عاقر.

عشرون عامًا كان فيها اليأس ينخر مضاجعنا. لم نسمع سوى طنين الشعارات التقليدية الخاوية وحفيف أوراقنا البالية. أجيال تولد في عوالم طينية لا تعرف من القيم سوى الرياء والخديعة والجحود والسعي وراء المصلحة والسطوة، ومن أجلها كل الوسائل حاضرة.

فنحن وإسرائيل وحدنا في مهاجع الجوع وفي بساتين السهر؛ نحن وخياراتنا على دروب الحكمة أو في مهالك العدم .لم يقم بيننا “ناطور” أمين ولم يسعفنا “معلم” صادق، فعشنا على هدى “زند أجرب” وصلينا كي لا نقع فريسة للعصا أو ضحايا لعربدة رصاصة تائهة منا وبيننا !

كل عناوين الخسارة كانت مكتوبة أمامنا على جدران قرانا والمدن. الحمقى أغفلوها وغطاها المنتفعون بمناديل من زبد ومضوا إلى ساحات عجزهم، أما المقامرون فقد أغفلوها في طريقهم إلى “مجالس الندماء” التي تكرر أحلامهم نشواتٍ وتخفق من أجلهم الزمن.

أرادونا أن نقتنع بأن الجماهير مجرد قطعان من أغبياء، تنسى وتلهث، تنام وتهمل.

لكننا قلنا، هي الجماهير حية تنذر مرة وتحذر مرارًا واذا ما جهلت فيجيئكم غضبها طوفانا؛ إنهم أحفاد من حوّلوا  أيار البلاد إلى وهج الصدى وخطّوه أحمر الآفاق وجعلوه لون الشهوة وسجّلوه في المآقي كشهر الورد والردى؛ وهي الجماهير  التي لبّت، في آذار، نداء أمنا الارض فغارت بعده “عشتار” من عذراوات الجليل وبكت من تناهيد قانا ومن دموع سخنين فصار زهر لوز الكرمل جواز سفر الصالحين وتميمة المقاتلين.

لا تفتشوا عن أسباب هزائمكم في حقول الغير ، فسوس الخشب منه وفيه. كم قلنا أنه لن تقوم لنا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، قائمة، إلا اذا واجهنا واقعنا بجرأة وباستقامة وبمسؤولية، وتخلينا عن مداهنة بعضنا وفقأنا عيون الكذب وتوقفنا عن البكاء على الاطلال وعن التسامح مع من يغتصب أعراض بكارات أفكارنا ومواقفنا ويخيفنا قبل كل هزيمة صائحًا : ” انتظرني يا بيبي نتياهو عند المنحنى، فسأعود مع اخوتي، بعد أن يستعيدوا أوصال أوردتهم المقطعة، كي نطيح برأسك ونرميه في مزابل القدر”.

للتيه قواعد وأصول، وللبقاء قوة وغرائز وفصول. جموع الناس لن تكون قطعانًا الا اذا كان راعيها من وهم وسراب وزبد، فلقد آن الأوان أن يقوم بيننا راع وحكيم وصادق لينفض عن شرايين هويتنا غبار الندم وليقول للغفاة هيّا وللمزايدين كفى ويمضي نحو قمة الجبل.

لقد كشفت انتخابات الكنيست ما أظهرته انتخابات الأمس البلدية والمحلية، واذا لم يقم من يستخلص العبر بشكل صحيح ستكون خاتمتنا، في ظل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، سيئة ومصيرنا صعبا.

لقد استرجع مجتمعنا عناصر تكوينه البدائية السلبية، فأخذ أبناؤه يستكينون لرحمة السماء فقط، ويحتمون بحضن القبيلة وينتعشون في ظل العائلة ويرجون رحمة المصلحة ومن يؤمّنها.

 اننا نعيش أزمة هوية خطيرة ونفقد عمليًا ما نجح آباء شعبنا المؤسسون ببنائه بعد أن ردموا  في بدايات خمسينيات القرن الماضي مخلفات هويات قدّست الخاص عن العام.

نحن نرى مجددًا انكسارًا في   الهوية الوطنية، ونرى تفكك أواصر المؤسسات القطرية القيادية وفقدانها لدورها المؤسس، فلقد غاب عمليًا دور لجنة المتابعة العليا بشكل بارز ومقلق، وغاب كذلك دور اللجنة القطرية للرؤساء وغيرها من الهيئات.

لقد كشفت نتائج الانتخابات كذبة حجم الأحزاب حين ظهرت قواها الحقيقية، ورغم ذلك ما زال بعضها يتشدّق ويقدّم قادتُه للجماهير نصائح ويسدي كتّابهم لنا المواعظ المستوردة من أفواه مفكرين يستقزمون وجودنا في بلادنا ويتهكمون على نضالنا ونضالات من سبقونا.

لقد كان تصرف الأحزاب ناتجًا عن ضعفها ولم يكن ضعفها ناتجًا عن تصرفاتها؛ فنتائج الانتخابات تعيدنا حتمًا الى مواجهة أسئلتنا الكبرى وأهمها ما يتعلق بضرورة وجود هذه الأحزاب بهياكلها الحالية وهيئاتها القاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *