هذه طيبتي

ونجّنا من الشرير – بقلم: جواد بولس

لو وقفنا برويّة وتفكّر في وجه ما كُشف عنه من محاولة رخيصة لاستدراج بعض الفتية العرب المسيحيين للخدمة في جيش الاحتلال الإسرائيلي، لما تعاطينا مع ذلك الكشف بتلك العصبية والاستحواذ الذي تخطى الحاجة والمعقول.

لقد استهدف المبادرون، كما جاء على لسان كثير من المعقّبين، خلق بلبلة وزرع فتنة والاستفراد بنفرٍ من شباب مجتمعنا ضلَّ الطريق وكاد يقع في شباك هذا العصر العنكبوتية.

محاولات تفتيت الأقلية الفلسطينية في إسرائيل لم تتوقف منذ حطَّ “طلائعيو” الاستيطان الصهيوني في أرضنا. أدوات تسهيل المهمة الصهيونية تعدّدت ودائمًا كان في مقدمتها مخاتير ووجهاء ورجال دين من جميع الطوائف.

ما نشر من تفاصيل حول هذا الموضوع يستدعي الوقوف مجدّدًا على طبيعة تلك الدوافع التي حدت بذلك البعض أن يأكل الطعم ويعلق بالصنّارة. تبقى، برأيي، هذه المهمة الأساس التي من شأن خلاصاتها أن تمنع تكرار مثل هذا الأمر في القريب العاجل.

كلُّ من خطط وشارك وحاول الإيقاع بأولئك الفتية يستحق الإدانة، كما أن انخراط رجال دين في مثل هذه العمليات هو أمر مستهجن ويستحق كل إدانة وشجب. إلى ذلك فإن محاولات ترهيب أعضاء مجلس الطائفة العربية الأرثوذكسية في الناصرة، ومن يقف على رأسه، د. عزمي حكيم، هي أفعال دنيئة مرفوضة وتشكّل مخالفات جنائية على الشرطة أن تكشف من وراءها وتدفعه الثمن.

يقلقني هذا الغرق. فهذه الحادثة، على ما يمكن وصفها بالخطيرة والمستفزة، غير جديرة بأن تتحوَّل إلى حديث الساعة في كل ميدان وعرس ومأتم. أخشى أن يكون قد أحرز من كان وراء هذه الفعلة بعضًا من أهدافه ولكم أن ترجعوا إلى مواقع الأخبار وإلى مواقع التواصل الاجتماعي لتروا كيف تتراقص الفرقة وتتمختر العنصرية وتصفق الجهالة .

من يتصفّح سجّل أحداث الأيام القليلة الخالية يقرأ أخبارًا لا تقل خطورة في وقعها ونتائجها ومدلولاتها، وبعضها، أجزم، يبقى الخطر الأساسي الذي سنواجهه نحن العرب في إسرائيل.

يخيفني، مثلًا، عندما نقرأ خبرًا يفيدنا أن قائد أركان الجيش الإسرائيلي شكَّل طاقمًا خاصًا، يرأسه قائد المنطقة الوسطى السابق، مهمته متابعة نشاط ضباط الجيش الذين ما زالوا يلاحقون الفنان محمد بكري منذ عشرة أعوام. مهمتهم الحالية هي إقناع المستشار القضائي للحكومة بوجوب تقديم لائحة اتهام بحق البكري عن فيلمه الشهير “جنين جنين”، على الرغم من أن محكمة إسرائيلية كانت قد ردّت قبل عام التماس أولئك الجنود وأعفت البكري من كل مسؤولية حقوقية. إسرائيل لا تكلّ ولا تملّ وسوف تلاحق البكري بكلّ وسيلة وثمن ليدفع في النهاية هو وفقط هو الثمن. عصبيّتنا وعوْمُنا في كل طشت يوضع في دربنا، أبقى قضية البكري على هامش السيرة وفي أدراج النسيان، مع أنّها أبعد من جنين وتلامس رزمة من حقوقنا العربية والإنسانية الأساسية في إسرائيل.

مجلس التعليم العالي الإسرائيلي التأم قبل أيام لينظر في استئناف رئاسة جامعة بئر السبع على قرار إغلاق قسم دراسات العلوم السياسية. للقضية أبعاد خطيرة وعنها كتبنا عندما حذّرنا من نشاطات منظمة يمينية اسمها “إم ترتسو” تلاحق الأكاديميين الإسرائيليين وتتهمهم بيساريتهم ومعاداتهم لـ”يهودية الدولة”. هذه المنظمة استهدفت في تقريرها، قبل عامين، قسم العلوم السياسية في جامعة بئر السبع وبعد ملاحقات وضغوطات أثمرت جهودها وهوت معاولها لتقطع جذع أول كلية جامعية وتقدمها قربانًا على مذابح الفاشية. للقضية معانٍ خطيرة، فالتاريخ علّمنا أن الفاشية ليست “موضة” ولا نزوة. العلم شخصّها بمقاييس عديدة آخرها ملاحقة الأكاديميين ومعاهد التعليم العالي.

وفي شأن ذي صلة، نقرأ أن استطلاعًا للرأي بيّن أن أكثر من ثلث سكان الدولة اليهود يؤيّدون حرمان العرب من المشاركة السياسية ومنعهم من التصويت في انتخابات الكنيست. في الوقت نفسه نقرأ عن تكهنات استطلاعات عربية تفيد أن نسبة أعلى من هذه بين العرب تنادي بمقاطعة الانتخابات وعدم المشاركة في الفعل السياسي الإسرائيلي. قضية لافتة للنظر، فكيف من الممكن أن يلتقي، في النتيجة، فاشي يهودي عنصري يدعو لإقصائنا عن حياة الدولة مع “سوبر قومي عربي” أو عضو في الحركة الإسلامية؟ هل يقوم أحد معاهدنا الدراسية أو حزب أو حركة بتحليل هذه المقاربات ومحاولة فهمها بشكل جريء، واضح ومباشر.

أمّا ما قام به بيبي نتنياهو في هذا الأسبوع يبقى الأخطر من كل ما ذكر. نتنياهو يعقد مؤتمرًا صحفيًا يعلن فيه عن قراره بالتزاوج مع حركة “إسرائيل بيتنا”. تحدّث بيبي لمدة أربع دقائق فقط. ووفقًا لمن أحصى كلماته فلقد كرر كلمة “قوة” و”إسرائيل قوية” حوالي ثلاث عشرة مرة. من راهن على فشل بيبي في تمرير قراره في حزب الليكود خذل. لقد انتصر “السوبرمان” وهو سيقود إسرائيل المستقبل إلى ما تجيد فعله القوة المطلقة: الحرب والقمع المطلق.

لقد تظاهر مئات من المحاضرين خارج مبنى مجلس التعليم العالي والعرب غابوا وعلِقوا حيث رمى رجال ديننا شباكهم. لقد تحالف بيبي مع “إسرائيل بيتهم” وركب ذروة الموج. ونحن لا الموج يعنينا ولا يقلقنا دماره لأننا قوم أجاد الصخب وأهمل الإصغاء لهدير التسونامي المقبل. فيا رب “لا تدخلنا في تجربة لكن نجِّنا من الشرير”.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *