كلمة حرة

عالماشي: بائع العصير المثلج

تناهت الى سمعي ترانيم اغنية عذبة بصوت مجموعة من الاطفال عبر النافذة في صبيحة السبت وأنا اتكاسل في صبيحة ايام العطلة كعادتي، فقلت اتوجه الى الشرفة لاستوضح مصدر الصوت العذب وانهل منه لأرتوي.

قبل ان اصل الشرفة، اتضح كل شيء، إذ تمكنت من التعرف على هذا الصوت وعلى نغمات هذه الاغاني قبل ان اطل من شرفة منزلي وأرى مبعثها، يبدو ان الطقس دافئ هذا الصباح.

انه البائع المتجول الذي يجوب شوارع حارتنا في صبيحة كل سبت ليبيع العصير بكاسات من البلاستيك شفافة ومرنة ورخيصة، والذي صار الجميع يتعرف عليه من نغمات الاغاني التي يطلقها. انها اناشيد دينية بأصوات اطفال كالتي نستمتع بها عبر فضائية “كراميش” او “اطفال الجنة”. انها اغان بدون مرافقة موسيقية، بل ايقاع منفرد لا أكثر. وهي اناشيد تتغنى بحب الله ولا محور آخر لمواضيعها.

انظر الى البائع الذي يعرفه الجميع في حارتنا، فأراه شيخا في الاربعينات يجوب شوارع الطيبة بسيارة من نوع “تندر” تعود صناعتها الى سنوات التسيعينات، وقد جعلها الشيخ دكانا متجولا فيه ثلاجة تستمد طاقتها من بطارية السيارة وهي تحافظ على برودة العصير بألوانه ومذاقاته المختلفة والثلج فيه لعدة ساعات مهما كان الجور حارا.

ورغم انني لا احسب على المتدينين، إلا انني اشعر بدغدغة لذيذة وببهجة تستفز سعادتي عند سماع هذه الاصوات الرائعة النقية الرنامة واتخيلها قريبة من الترانيم الدينية في الكنائس لعذوبتها وصفاء الفاظها.

المشهد يستحق التمعن والمتابعة والتأمل، بينما شمس الصباح الدافئة تحاول رفع اهدابي الثقيلة وقهوتي تحاول غسل ذهني من مخلفات الليل.

تشدني حركات هذا الشيخ كيف يبيع العصير لزبائنه من المارة وخاصة الصغار الذين يحبون العصير بألوانه الزاهية الاحمر والزهري والأصفر والأخضر ومذاقاته المختلفة الليمون والنعناع والتوت. واعتبر نفسي محظوظا بهذا المشهد الرائع وبهذه الانغام المرافقة له، فأحمد ربي انني لم استيقظ هذا الصباح على عبارة: “اللي عنده نحاس خربان للبيع”.

يجتاحني شيء من الزهو وانا اقف في شرفتي حاملا فنجان قهوتي اصغي الى اصوات الملائكة تشدو من مكبر الصوت فاعتبرتها تحية لظهوري، فيزيد هذا من غروري ولا اجمل من بداية كهذه ليوم الراحة.

توقفت سيارة البائع على جانب الشارع في الجهة المقابلة لمنزلي، فأصبح المشهد أمامي كامل الوضوح. ترجل الشيخ السائق البائع من قمرة القيادة ووقف الى جانب صندوق السيارة، (الدكان) مستعدا ومنتظرا قدوم الزبائن. وزبائنه عادة من الصغار الذين ما ان يسمعوا صوت هذه الاناشيد حتى يضربوا الارض باقدامهم امام أمهاتهم طالبين النقود لشراء هذا الشراب.

لم ينتظر الشيخ طويلا وإذا بسيدة تجر صغيرها في الشارع تتوقف وتشتري له ولنفسها كأسين من العصير البارد بلونين أحمر وأصفر وتنصرف سائرة تحتسي مع ابنها الصغير ذات الشراب، نوع من المساواة بين الام وطفلها سعد له الصغير كثيرا.

وفي الطرف الآخر من الشارع الحظ طفلا يكاد يكون في الخامسة من عمره يمسك بيد شقيقته التي تبدو أصغر منه، وقد تجمد مكانه على حافة الشارع ينتظر مرور سيارة تفصله عن بائع الشراب، قبل ان يقطع الشارع.

البائع يشير للطفلين الشقيقين الصغيرين بالانتظار مكانهما حتى تمر السيارة، فأرى الطفل يمسك بقوة بيد اخته الصغيرة لئلا تفاجئه بقطع الشارع، ثم ينظر يسارا ويمينا قبل ان يجرها بكل حرص نحو سيارة البائع وهو يغمض يده الاخرى على النقود وكأنه يمسك بأكسير الحياة.

تابعت الطفلين وقلت في نفسي، الهي ما اجمل هذا المشهد. واسترسل ذهني: لعل هذا الطفل ضرب شقيقته في البيت قبل ذلك بدقائق، ولعله رفض ان يشاركها لعبته المفضلة، ولعله سارع ليشي بها الى امه كي تعاقبها، ولعل الصغيرة ردت عليه بنفس التصرفات… ولكنهما هنا في طريقهما الى البائع يبدوان اكثر شقيقين حرصا على بعضهما في العالم قاطبة. الآن ايقنت ان مصائر الاشقاء تنصهر لتصبح مصيرا مشتركا خارج البيت وتعود لتنفصل الى مصائر مختلفة في بيت الاسرة.

اخذ كل من الطفلين شرابه، وقطعا الشارع بمساعدة الشيخ البائع عائدين باتجاه بيتهما، كل يحمل سعادته الغامرة بلونه المفضل في كأس من البلاستيك شفاف ومرن ورخيص.

افرحني هذا المشهد كثيرا وتمنيت لو اتجول برفقة هذا الشيخ الجليل الذي يبيع الفرحة في شوارع الطيبة ليطعم اطفاله في البيت، وكم تمنيت لو يكتمل ذوق هذا الشيخ الهادئ الجميل بطلته البشوشة فيعتمر الكوفية والعقال ليكون طيباويا محليا صرفا بدل هذه الخلطة الغريبة من عمامة افغانية ودشداشة سعودية وشبشب يمني.

مع تحيات اخوكم: ابو الزوز

‫5 تعليقات

  1. لم تعجبني اخر جملة كتبها لان هذا يدل على العنصرية ضد الاسلام ( لباس المسلمين حقيقة هو الدشداش وليس البنطال ) لكن باقي المقال اعجبني جدا لولا الجملة الاخيرة … بالتوفيق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *